تاريخ السلاجقة والدانشمند ... (13)
-----------------------------------------------------------
بعد الإنتصار الساحق في معركة ملاذكرد : وفاة️ السلطان محمد ألب أرسلان ؛ وتولى ابنه السلطان ملكشاه حكم السلاجقة .
-----------------------------------------------------------
ملخص ما سبق :
كان السلطان ألب أرسلان في قلة من أصحابه قرابة خمسة عشرة ألفا ؛ لا تقارن بعدد الروم مائتي ألف الذين باغتوه بقدومهم ، ولم يكن لديه وقت لاستدعاء مدد من المناطق التابعة له وقال : قولته المشهورة :
" أنا أحتسب عند الله نفسي وإن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبر رمسي، وإن نصرت فما أسعدني وأنا أمسي، ويومي خير من أمسي "
وهجم بمن معه على مقدمة الأعداء وكان فيها عشرون ألفاً معظمهم من الروس، فأحرز المسلمون عليهم انتصاراً عظيماً وتمكنوا من أسر معظم قوادهم .
️ ثم أرسل السلطان ألب وفداً يعرض المصالحة على ملك الروم ولكنه رفض و تكبر، وقال :
" لا هدنة ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فُعل ببلاد الروم ، و لا صلح حتى أدخل الري عاصمة السلاجقة .
أعد المسلمون العدة للمعركة الفاصلة واجتمع الجيشان يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 463ﻫ،..
فلما كان وقت الصلاة من يوم الجمعة صلى السلطان بالعسكر ودعا الله تعالى وابتهل وبكى وتضرع ونزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه بالتراب وأكثر من الدعاء ثم ركب وحمل على الأعداء، وصدق المسلمون القتال وصبروا وصابروا حتى زلزل الله الأعداء وقذف الرعب في قلوبهم، ...
ونصر الله المسلمين عليهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا منهم جموعاً كبيرة، كان على رأسهم ملك الروم نفسه الذي أسره أحد غلمان المسلمين فأحضر ذليلاً إلى السلطان ، فقنعّه بالمِقرعة، وقال :
" ويلك ألم أبعث أطلب منك الهدنة ؟
قال : دعني من التوبيخ.
قال : ما كان عزمك لو ظفرت بي ؟
قال : كل قبيح ..
قال : فما تؤمَّلُ وتُظُن بي ؟
قال : القتل أو تُشهّرني في بلادك، والثالثة بعيدة : العفو وقبول الفداء.
قال ألب أرسلان : ما عزمت على غيرها ...!!!
فاشترى الإمبراطور نفسه بألف ألف دينار وخمس مائة ألف دينار، وإطلاق كل أسير في بلاده،
تعتبر هزيمة البيزنطيين في ملاذكرد نقطة تحول في التاريخ الإسلامي البيزنطي فلأول مرة يقع الإمبراطور نفسه أسيراً في أيدي المسلمين ، فهي لا تقل أهمية عن اليرموك ونتائجها،
---------------------------------------------------------------------
وفاة السلطان ألب أرسلان : الأسد الشجاع
في سنة خمس وستين وأربعمائة( 465 ه/1072م) قصد السلطان ألب أرسلان بلاد ما وراء النهر غازيا وعبر نهر جيحون، وكان في نحو مائتي ألف فارس، ...
فاتفق في بعض المنازل أنه غضب على رجل يقال له : يوسف الخوارزمي وكان مستحفظ القلاع ، فأوقف بين يديه فشرع يعاتبه في أشياء صدرت منه ، ثم أمر أن يضرب له أربعة أوتاد ويصلب بينها ،
فقال ذلك الرجل للسلطان : يا مخنث أمثلي يقتل هكذا؟ فاحتد السلطان من ذلك ، وأمر بإرساله ، وأخذ القوس فرماه بسهم فأخطأه ، ...
وأقبل يوسف نحو السلطان فنهض السلطان عن السرير ، فنزل فعثر ، فوقع فأدركه يوسف فضربه في خاصرته بخنجر كان في يده وأدركه الجيش فقتلوه
وقد جرح السلطان جرحا منكرا ، فتوفي في يوم السبت عاشر ربيع الأول من هذه السنة ويقال إن أهل بخارا [ ص: 38 ] لما اجتاز بهم ، ونهب عسكره أشياء كثيرة لهم دعوا عليه فهلك .
انتقل ألب أرسلان إلى خيمة أخرى جريحاً وأحضر وزيره نظام الملك وأوصى به إليه، وجعل ولده ملكشاه أبو شجاع محمد وليّ عهده ، ثم توفي السلطان وذلك في جمادي الآخره سنة خمس وستين وأربع مائة، وله أربعون سنة ..
ترك ألب أرسلان من الأولاد : ملكشاه، وإياز، وتَكِشى (تتش) ، وبورى برس وأرسلان أرغون وسارّة وعائشة وبنتاً أخرى ، وقيل توفي عن إحدى وأربعين سنة، ودفن عند والده بالري رحمه الله تعالى ،
ويحكى أنه قال لما عاين الموت بعينه : ما كنت قط في وجه قصدته ولا عدو أردته، إلا توكلت على الله في أمري، وطلبت منه نصري، وأما في هذه النوبة، فإني أشرفت من تل عال، فرأيت عسكري في أجمل حال، فقلت أين من له قدر مصارعتي، وقدرة معارضتي، وإني أصل بهذ العسكر إلى أقصى الصين، فخرجت عليّ منيتي من الكمين !
وجاء في رواية : .. فقلت في نفسي أنا ملك الدنيا وما يقدر أحد علي فعجّزني الله تعالى بأضعف خلقه وأنا استغفر الله وأستقيله من ذلك الخاطر .
ولما بلغ موته أهل بغداد أقام الناس له العزاء وغُلقت الأسواق وأظهر الخليفة الجزع عليه وتسَلبتَّ ابنته الخاتون زوجة وجلست على التراب .
---------------------------------------------------------------------
السلطان ملكشاه
هو السلطان الكبير جلال الدولة أبو الفتح ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان محمد بن جغريبك السلجوقي التركي، تملك بعد أبيه، وديرّ دولته النظام الوزير بوصية من ألب أرسلان إليه في سنة خمس وستين .
بعد معركة – سمرقند – التي قام بها السلطان – ألب أرسلان سنة 465ﻫ وقبل وفاته على أثر جرحه بيد – يوسف الخوارزمي أمر القواد بمبايعة ابنه، ملكشاه، للمرة الثالثة، وعين وزيره (نظام الملك) وصيَّاً عليه وطلب من رجال دولته حترامهما وطاعة أوامرهما ،
وكان أبوه السلطان ألب قد أعدّه إعداداً ملكياً ودربه تدريباً سلطانياً، مثلماً أعده أبوه – جغرى بك – من قبل وقد ساعده على ذلك وزيره النظام حيث رغبّه في دراسة العلوم ومّرنه على المثابرة والجلد في الحروب، وبهذا تعاون الوالد والوزير معاً على تهيئة ملكشاه لعرش آل سلجوق ..
لم يكتف ألب بتدريب ابنه النظري، كما يربي معظم أبناء الملوك وإنما أنزله الميادين وأشركه في القتال حتى مرن على الحرب وعرف خططها وخدعها وكذلك أراد له أن يتعلم أصول الحكم وتدبير شؤون الرعايا بالممارسة فمنحه حكومة – كيلان – وأصدر بذلك منشوراً .
وبناء على توصية السلطان الراحل فقد اجتمع قواد الجيش، وأعيان الدولة في لإجراء مراسم تنصيب السلطان الجديد، وبايعوا " ملكشاه " سنة 465ﻫ / 1072م وعمره – حينذاك – ثمانية عشر عاماً فقط ،
وقال ملكشاه في خطاب العرش، حينما طلب إليه الوزير نظام الملك أن يتكلم . فقال :
"
الأكبر منكم أبي، والأوسط أخي والأصغر ابني، وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه " فأمسكوا فأعاد القول، فأجابوه بالسمع والطاعة ...
وهذل يدل على نزعته العادلة وامتثاله الآداب الإسلامية ..
كما تولى الوزير نظام الملك وأبو سعد المتولي أخذ البيعة لملكشاه من الأمراء والوجهاء وأطلق الأموال عليهم ..
لذلك أجمعت المصادر التاريخية بأن " نظام الملك الكندري" لعب دوراً كبيراً في تنصيب السلطان الجديد، كما كان له الفضل الأكبر في إرساء دعائم الدولة السلجوقية وانتصاراتها الحربية ، والفكرية والعقائدية على الباطنية والفلاسفة وذلك باهتمامه الكبير بعلماء أهل السنة ونشر المدارس النظامية في إرجاء الدولة السلجوقية ودورها في حفظ منهج أهل السنة ودحر المد الباطني.
وقد أثبت السلطان الجديد مقدرة فائقة في الحرب، ورغبة نادرة في الإصلاح والتعمير حتى عّده أحد المؤرخين المؤسس الحقيقي للأمبراطورية السلجوقية المترامية الأطراف وذلك بنشاطه وحنكة وزيره نظام الملك ،..
ويعتبر نظام الملك هو الموّجه لسياسة الدولة ، فسواء أكان المؤسس لدولة السلاجقة، طغرل بك، أو ألب أرسلان، أو ملكشاه، فإنهم قد تعاونوا على إنشائها وتوطيد دعائمها ثم اتساع رقعتها حتى كان لثالثهم من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن، وقد خطب له من حدود الصين إلى آخر
الشام .
---‐-------------------
خروج عمّه والقضاء عليه
لم يتربع ملكشاه على العرش السلجوقي حتى صدقت طنون أبيه في وصيته، وخرج عليه أعضاء أسرته مطالبين بالعرش، وكان أول هؤلاء وأشدهم بأساً وأقواهم حجة – قاروت ملك كرمان أخو السلطان ألب أرسلان..
ولم يكن يخفى على قاروت أن النصر لا يكون له إلاَّ إذا كسب الجيش وربح مؤازرته، فاستمال القواد والجنود بزيادة رواتبهم وتحسين حالتهم إذا أتى إلى الحكم فقامت بذلك مظاهرتهم مطالبين بمجيء " قاروت " إلى العرش وأحقيته بالسلطان !!
وكتب إلى ابن أخيه في نفس الوقت يقول :
" إني أحقّ منك بالعرش لأني الأخ الأكبر للسلطان الراحل وأنت أصغر أبنائه " وسار بجيشه إلى الري ،..
وقد أدرك نظام الملك خطورة هذه الفتنة وشدّتها، وأنها تهدد عرش السلطان ومنصب وزيره وأنها ستقضي عليهما وعلى أهدافه إذا كتب لها النصر فقرر الإسراع بالجيش نحو الري حتى بلغها قبل وصول قاروت، وأجاب على رسالة عم السلطان : إن الابن أحقّ بالعرش من الأخ ،..
فالتقى الجيشان بقرب همذان، فانكسر جمع قاروت، وأتي به أسيراً إلى ملكشاه فوبّخه ، فقال : أمراؤك كاتبوني، وأحضر خريطة فيها كتبهم، فناولها لنظام الملك ليقرأها، فرماها في منقل نار، ففرح الأمراء وبذلوا الطاعة ،...
وأدخل قاروت السجن ولكن ما أدخله في روع الجنود من زيادة رواتبهم لم يزل يدفعهم إلى التظاهر والعصيان، والتهديد بمبايعة الأمير السجين إذا لم تلب طلباتهم، ..
وأحس الوزير نظام الملك بحرج الموقف ودقته وأنه لا بد وأن يتخذ رأيا حاسماً لقطع النزاع، فوافق رؤساء الجيش على مشروعية مطالبهم ووعدهم بأنه سيحّدث السلطان ويقنعه بتنفيذها، وهدأت الأحوال،...
وذهب لمقابلة السلطان وأخبره بما انتهى إليه الحال وأشار عليه، كما يذكر معظم المؤرخين – بقتل عمه في الحال فأصدر السلطان أمره وقتل وما أن عاد رؤساء الجيش ليستفسروا عما تمّ بخصوص مطالبهم حتى فأجاهم " النظام " بأنه ما استطاع مفاتحة السلطان بأمرهم حيث وجده حزيناً على فقد عمه الذي امتص السّم من خاتم في أصبعه ومات في السجن، فعادوا واجمين خائفين، ولم يستطع أحدهم القيام بحركة مناوأة، واستتبّ الأمن في البلاد ،
وما لبث السلطان حتى زحف نحو – سمرقند – وعبر نهر جيحون سنة 467ﻫ ليأخذ بثأر أبيه من البلاد التي أغتيل فيها، ولكنه لم يكد يصل إليها حتى هرب حاكمها – خاقان البتكين – فتوسط له " نظام الملك " وأجيب لذلك .
ثم استمرت شفاعات " النظام " تترى على السلطان في طلب الصفح عن الخارجين بعد اعتذارهم، وإعادتهم إلى مقر وظائفهم وأتخذ وسيلة جديدة هذه المرة في سياسته الحربية كان فيها رسول سلام ابتداءً من سنة 467ﻫ إلى 473ﻫ،
وقد خرج على السلطان ملكشاه أخوه – تكش "تتش" – بعد أن التحق بجيشه الجنود الذين فصلوا من سلك الخدمة العسكرية خلافاً لرأي وزيره " النظام " ،فسلر ملكشاه إلى خراسان ودخل نيسابور قبل أن يصلها أخوه تتش ثم التقيا " بترمذ " واصطلحا أيضاً سنة 473ﻫ.
ملكشاه واهتمامه بالرعية و عدله ومواقفه
أكثر ملكشاه من زياراته للأقاليم وتفقد أحوال الرعية واحتياجاتهم بنفسه وبنى المخافر في السبل فانتشر الأمن من حدود الصين إلى البحر المتوسط، ومن جورجيا إلى اليمن جنوباً، ...
وقام بجولة من أصبهان إلى الأنبار ومنها إلى الموصل، ثم سار إلى حلب حيث قضى على بعض أمرائها، وكان وزيره النظام يرافقه في جميع سفراته وجولاته وهو الذي يدبرّ الأمور له ، وكانت دولته، صارمة، والطرقات في أيامه آمنة، ...
ومع عظمته يقف للمسكين والمرأة والضعيف فيقضي حوائجهم ، وقد عمّر العمارات الهائلة، وبنى القناطر، وأسقط المكوس، والضرائب وحضر الأنهار الكبار الخَرَاب، وبنى مدرسة أبي حنيفة والسوق وبنى الجامع الذي يقال له : جامع السلطان ببغداد .
"وكان يشيَّعَ مرة ركب الحجاج من العراق إلى العُذيَب ، فصاد شيئاً كثيراً، فبنى هناك منارة القرون من حوافر الوحش وقرونها، ووقف يتأمل الحجاج، فرقّ ونزل وسجد، وعفَّر وجهه وبكى، وقال بالعجمية :
بلغَّوا سلامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولوا : العبد العاصي الآبق أبو الفتح يخدم ويقول : يا نبي الله ، لو كنت ممّن يصلح لتلك الحضرة المقدسة، كنت في الصحبة، فضجّ الناس وبكوا، ودعوا له " .
كان لملكشاه أفعال حسنة وسيرة صالحة، من ذلك أن فلاحاً أنهى إليه أن غلماناً له أخذوا له حمل بطيَّخ هو رأس ماله، فقال : اليوم أرُدُّ عليك حملك، ثم قال لِقمَّه : أريد أن تأتوني ببطيخ، ففتشوا، فإذا في خيمة الحاجب بطيخ، فحملوه إليه،
فاستدعى الحاجب فقال : من أين لك هذا البطيخ؟ قال : جاء به الغلمان. فقال : أحضرهم. فذهب فهَّربهم، فأرسل إليه، فأحضره وسلمّه إلى الفلاح، وقال : خذ بيده، فإنه مملوكي ومملوك أبي، فإياك أن تفارقه، فرّد عليه حمله، فخرج الفلاح يحمله وفي يده الحاجب، فاستفدى نفسه منه بثلاثمائة دينار .
ولما توجًّه لقتال أخيه تكشى"تتش"، اجتاز بطُوس، فدخل لزيارة قبر عليَّ بن موسى الرَّضا، على زعم بعض المؤرخين ومعه نظام الملك، فلمّا خرَجا قال للنَّظام : بم دعوت ؟ قال : دعوت الله أن يظفَّرك على أخيك. فقال : لكنيَّ قلت : اللهمَّ إن كان أخي أصلح للمسلمين فظفرَّه بي، وإن كنت أصلح لهم فظفَّرني به . وقد سار ملكشاه هذا بعسكره من أصبهان إلى أنطاكية فما عرف أنَّ أحداً من جيشه ظلم أحداً من رعيتَّهِ .
استعدى إليه تركماني أن رجلاً افتضَّ بكارة ابنته، وهو يريد أن يمكنه من قتله، فقال له : يا هذا إن ابنتك لو شاءت ما مكَّنته من نفسها، فإن كنت لابد فاعِلاً فاقتلها معه، فسكت الرجل، ثم قال الملك : أو خير من ذلك ؟ قال : وما هو ؟ قال : فإنَّ بكارتها قد ذهبت، فزوَّجها من ذلك الرجل وأمهرها من بيت المال كفايتها، ففعل .
وحكى له بعض الوعّاظ أنَّ كسرى اجتاز يوماً في بعض أسفاره بقرية منفرداً من جيشه، فوقف على باب دار فاستسقى، فأخرجت إليه جارية إناء فيه ماء قصب السُّكرَّ بالثلج فشرب منه فأعجبه، فقال : كيف تصنعين هذا ؟ فقالت : إنَّه سهل علينا اعتصاره على أيدينا، فطلب منها شربة أخرى، فذهبت لتأتيه بها ...
فوقع في نفسه أن يأخذ هذا المكان منهم ويُعَوَّضهم عنه، فأبطأت عليه ثم خرجت وليس معها شيء فقال : مالك ؟ فقالت :كأن نيّة سُلطاننا تغيَّرت علينا، فتعّسَّر علىَّ اعتصاره – وهي لا تعرف أنَه السلطان – فقال : أذهبي فإنك الآن تقدرين، وغير نيتّهَ إلى غيرها، فذهبت، وجاءته بشربة أخرى سريعاً فشربها وانصرف.
فقال له ملكشاه : هذه تصلح لي، ولكن قُصَّ على الرعيَّة حكاية كسرى الأخرى حين اجتاز ببُستان، فطلب من ناطوره، عنقوداً من حصرم، فإنه قد أصابته صفراء، وعطش. فقال له الناطور : إنَّ السلطان لم يأخذ حقه منه، فلا أقدر أن أعطيك منه شيئاً. قال : فعجب الناس من ذكاء الملك وحسن استحضاره هذه في مقابلة تلك .
واستعداه رجلان من الفلاَّحين على الأمير خُمارتيكين أنه أخذ منهما مالاً جزيلاً وكسر ثَنِيَّتَهما وقالاً : سمعنا بعد لك في العالم، فإن أقدتنا منه كما أمرك الله وإلا استعدينا عليك الله يوم القيامة، وأخذا بركابه، فنزل عن فرسه وقال لهما : خُذا بكُمَّى فاسْحبَانى إلى دار نظام الملك، فهابا ذلك، فعزم عليهما، ففعلا ما أمرهما به،...
فلّما علم نظام الملك مجئ السلطان إليه خرج مسرعاً من خيمته، فقال له الملك : إنَّي قلدتك الأمر لتُنصف المظلوم ممَّن ظلمه، فكتب من فوره بعزل خمارتكين وحلَّ أقطاعه وأن يرد إليهما أموالهما وأن يقلعا ثنيَّتيه إن قامت عليه البيَّنة، وأمر لهما الملك من عنده بمائة دينار .
وقد أسقط مّرة بعض المكوس، فقال رجل من المستوفين : يا سلطان العالم إن هذا يعدل ستَّمائة ألف دينار وأكثر. فقال ويحك، إن المال مال الله، والعباد عبيده، والبلاد بلاده، وإنَّما يبقى هذا لي، نازعني في هذا ضربت عنقه .
غنَّته امرأة حسناء فَطرِب وتاقت نفسه إليها، فهّم بها، فقالت : أيها الملك، إنَّي أغار على هذا الوجه الجميل من النار وبين الحلال والحرام كلمة واحدة، فاستدعى بالقاضي فزوجه بها .
كان وزيره نظام الملك يهتم بالعلماء والزهاد والمدارس العلمية وينفق عليها الأموال الضخمة تنفق على الأساتذة والطلاب جميعاً، فسعى بالوشاية إلى السلطان ملكشاه خصومه وقالوا له إن النظام ينفق في كل سنة على الفقهاء والصوفية والقراء ثلاثمائة ألف دينار ، ولو صرف هذا المال على جيش لرفع رايته على أسوار القسطنطينية،...
فاستجوب السلطان وزيره فقال له : يا بني أنا شيخ أعجمي لو نودي عليّ لما زادت قيمتي على ثلاثة دنانير، وأنت تركي لتلك تبلغ المائة دينار، وقد أنعم الله عليك وعليّ بواسطتك مالم يعطه أحداً من خلقه، أفلا تعّوضه عن ذلك في حملة دينه وحفظه كتابه بثلاثمائة ألف دينار ..
ثم أنك تنفق على الجيوش المحاربة في كل سنة أضعاف هذا المال مع أن أقواهم وأرماهم لا تبلغ رميته ميلاً، ولا يضرب سيفه إلا ما قرب منه،...
وأنا أقمت لك بهذا المال جيشاً يسمى – جيش الليل – قام بالدعاء إذا نامت جيوشك، فمّدوا إلى الله أكفهم وأرسلوا دموعهم فتصل من دعائهم سهام ، على العرش لا يحجبها شيء عن الله، فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون وبدعائهم تثبتون وببركاتهم ترزقون .. فبكى السلطان وقال : شا باشى يا أبت شاباش بالتركي ومعناه بالعربي : استكثره من هذا الجيش .
-‐-----------‐----
زوج الخليفة المقتدي بابنة ملكشاه
تزوج الخليفة المقتدي بابنته بسفارة شيخ الشافعية أبي إسحاق، وكان عرسها في سنة 480ﻫ وعملت دعوة بجيش السلطان ما سُمع بمثلها أبداً، فمما دخل فيها أربعون ألف مَنَّاً سكراً، فولدت له جعفراً ، وكان ملكشاه يريد أن يجعل الخلافة العباسية تتحول إلى من أمه ابنته، كما زوج ابنته الأخرى إلى المستظهر العباسي ولم يتمكن من حصر الخلافة والسلطنة في شخص حفيده .
وقد وصف جهاز ابنة السلطان ملكشاه وزفتها : في المحرم نُقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجلّلة بالديباج الرومي، وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عمّاريات، وعلى أربعة وسبعين بغلاً مجلَّلة بأنواع الديباج الملكّي، وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة ...
وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة لا يقدر ما فيه من الجواهر والحليّ، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً من الخيل الرائقة، عليها مراكب الذهب مرصَّعة بأنواع الجواهر، ومهد عظيم كثير الذهب، ..
وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين، والأمير برسق، وغيرهما، ونثر أهل نهر مُعلىّ عليهم الدنانير والثياب، وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيّداً،
ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون، زوجة السلطان، وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبيّة، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم دكّان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان والأكثر من ذلك وأرسل الخليفة مع ظفر خادمة محفة لم يُر مثلها حُسناً
وقال الوزير لتركان خاتون : سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين
يقول : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره، فأجابت بالسمع والطاعة، وحضر نظام الملك ومن دونه من أعيان دولة السلطان وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير، ...
وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجمّلها وبين أيديهن الشمع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان ..
ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان، بعد الجميع في محفة مجللة، عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء وقد أحاط بالمحفّة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة وسارت إلى دار الخلافة وكانت ليلة مشهودة لم يُر ببغداد مثلها .
---------------------------------------------------------------------
البداية والنهاية (16/38) نسخة اسلام ويب
سير أعلام البنلاء(18/417),
البداية والنهاية (16/39 ، 40).
المصدر نفسه (16/40).
تاريخ دولة آل سلجوق ص 48.
تسلبت المرأة : أحَّدث ولبست السَّلاب ، وهو توب أسود تغطي به المحُّد رأسها.
البداية والنهاية (16/38).
سير أعلام النبلاء (19/55).
المنتظم سنة 465ﻫ نقلاً عن نظام الملك د. عبد الهادي ص 344.
نظام الملك، عبد الهادي ص 344.
المصدر نفسه ص 345.
البداية والنهاية (16/38).
نظام الملك ص 345.
المصدر نفسه ص 346.
النجوم الزاهرة نقلاً عن نظام الملك ص 347.
سير أعلام النبلاء (19/55).
نظام الملك ص 347.
الكامل في التاريخ (6/265).
نظام الملك 348.
البداية والنهاية (16/130).المصدر نفسه (16/130).
هو ماء بين القادسية والمغثية معجم البلدان (4/92).
سير أعلام النبلاء (19/56).
البداية والنهاية (16/131).
البداية والنهاية 016/132).
المصدر نفسه (16/133).
في سراج الملوك للطرطوشي ستمائة ألف دينار ص 227.
نظام الملك ص 651.
الحقيقة في نظر الغزالي د. سلمان دينا ص 16.
نظام الملك ص 261، أخبار الدولة السلجوقية ص 66، 67.
سير أعلام النبلاء (19/57).
السلاطين في المشرق العربي ص30، الدولة العثمانية للصَّلابَّي ص 92.
الكامل في التاريخ (6/308 ، 309).
☆ السلاجقة د. علي الصلابي ص83 - 91
إرسال تعليق