تاريخ الدولة الأموية (24)
ثناء العلماء على معاوية ودخول دولة بني أميه في خير القرون
ملخص ما سبق :
في عام 41هجرية/ 661م تنازل الحسن بن علي- رضي الله عنهما - عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان بشروط مقبولة و تمت المصالحة و اجتمعت كلمة الأمة فسمي بعام الجماعة .
وقد أجمعت الأمة على بيعة معاوية ؛ وبايعه علماء الصحابة والتابعين وعدوا خلافته شرعية ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام في تلك المرحلة،
قال ابن حزم :
{ فبويع الحسن ثم سلّم الأمر إلى معاوية، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ، ورأى إمامته" .
فالصحابة لم يبايعوا معاوية رضي الله عنه إلا وقد رأوا فيه شروط الإمامة متوفرة، ومنها العدالة ، فمن يطعن في عدالة معاوية وإمامته فقد طعن في عدالة هؤلاء الصحابة جميعهم وخونّهم وتنقصهم...
فمن رضيه هؤلاء لدينهم ودنياهم ألا نقبله ونرضى به نحن؟؟
ومن قال لعلهم بايعوا خوفا فقد أتهمهم بالجبن وعدم الصدع بالحق، وهم القوم المعلوم من سيرتهم الشجاعة والشهامة وعدم الخوف في الله لومة لائم }.
لقد تحقق بفضل الله تعالى ثم بنجاح الحسن بن علي في صلحه مع معاوية وحدة المسلمين واجتماعهم وهذا من أهم أسباب التمكين لدين الله تعالى .
انتهى عهد الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بتنازل الحسن بن علي لمعاوية رضي الله عنه، .ويجوز تسمية من أتى بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكاً، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء .
-------------------------------------------------------------------
ثناء العلماء على معاوية ودخول دولة بني أميه في خير القرون :
1 - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
( تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية) ,
وقال أبو محمد الأموي خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فرأى معاوية في موكب يتلقاه, وراح إليه في موكب, فقال له عمر : يا معاوية, تروح في موكب وتغدو في مثله, وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات بباك ؟؛
قال يا أمير المؤمنين إن العدو بها قريب منا, ولهم عيون وجواسيس, فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزاً، فقال له عمر : إن هذا لكيد رجل لبيب, أوخدعة رجل أريب؛ فقال معاوية : يا أمير المؤمنين, مرني بما شئت أصر إليه؛ قال : ويحك : ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلا تركتني ما أدري آمرك أم أنهاك .
2 - قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : لا تكرهوا إمارة معاوية فوالله لئن فقدتموه لترون رؤوساً تندر عن كواهلها كأنها الحنظل .
3- قال عبدالله بن عمر رضي الله عنه : ما رأيت أحداً أسود من معاوية قال : قلت : ولا عمر؟ قال : كان عمر خيراً منه وكان معاوية أسود منه وفي رواية : مارأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية. قيل ولا أبابكر؟ قال : كان أبو بكر وعمر وعثمان خيراً منه, وهو أسود منهم .
4- قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه : رضي الله عن : ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية , وفي صحيح البخاري أنه قيل لابن عباس : هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة قال : إنه فقيه ,
وذكر بن عباس معاوية فقال : لله درَّ ابن هند ما أكرم حسبه وأكرم مقدرته, والله ما شتمنا على منبر قط, ولا بالأرض ضَّناً منه بأحسابنا وحسبه .
وحين عزى معاوية عبدالله بن عباس في الحسن بن علي بقوله : لا يخزيك الله ولا يسوؤك في الحسن فقال : له ابن عباس : أما ما أبقى الله لي أمير المؤمنين, فلن يسؤني الله ولن يخزيني .
5- سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : قال رضي الله عنه : ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحقٍّ من صاحب هذا الباب, يعني : معاوية .
6- أبو هريرة رضي الله عنه : كان يمشي في سوق المدينه وهو يقول : ويحكم تمسكوا بصدغي معاوية, اللهم لا تدركني إمارة الصبيان .
7- أبو الدرداء رضي الله عنه قال : ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله من أميركم هذا- يعني معاوية -
قال ابن تيميه : بعد أن أورد أثر ابن عباس السابق, وأثر أبي الدرداء هذا : فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشهاد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة .
8- سعيد بن المسيب رحمه الله : قال ابن وهب عن مالك عن الزهري قال : سألت سعيد بن المسيِّب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : اسمع يا زهري, من مات محباً لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي, وشهد للعشرة بالجنة, وترحم على معاوية كان حقيقاً على الله أن لا يناقشه الحساب .
9- عبدالله بن المبارك- رحمه الله قال : معاوية عندنا محنة, فمن رأيناه ينظر إليه شزراً, اتهمناه على القوم, يعني الصحابة
وسئل ابن المبارك عن معاوية فقال : ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سمع الله لمن حمده. فقال خلفه : ربَّنا ولك الحمد؟ فقيل أيُّما أفضل؟ هو أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال : لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبدالعزيز .
10- عمر بن عبد العزيز : رحمه الله : قال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال : ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية, فإنه ضرب أسواطا .
11- وقال محمد بن عبدالله بن عمار الموصلي وغيره : سئل المعافي بن عمران : أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فغضب وقال للسائل : أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين, معاوية صاحبه وصهره, وكاتبه, وأمينه على وحي الله .
12- أحمد بن حنبل –رحمه الله- : سئل الإمام أحمد : ما تقول رحمك الله فيمن قال : لا أقول إن معاوية كاتب الوحي, ولا أقول إنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصباً؟ قال أبو عبدالله : هذا قول سوءٍ رديء, يجانبون هؤلاء القوم, ولا يجالسون, ونبين أمرهم للناس .
13- الربيع بن نافع الحلبي - رحمه الله- : قال : معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, فإذا كشف الرجل الستر, اجترأ على ماوراء .
14- قال ابن أبي العز الحنفي : وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين .
15- القاضي بن العربي المالكي : رحمه الله : تحدث ابن العربيِّ عن الخصال التي اجتمعت في معاوية رضي الله عنه, فذكر منها : ... قيامه بحماية البيضة, وسدِّ الثغور, وإصلاح الجند, والظهور على العدوِّ, وسياسة الخلق ,
وقال في موضع آخر من كتابه العواصم من القواصم : فعمر ولاه, وجمع له الشَّامات كلّها, وأقرَّه عثمان, بل إنَّما ولاه أبو بكر الصَّديق, لأنَّه ولي أخاه يزيد, واستخلفه يزيد, فأقرّه عمر, فتعلَّق عثمان بعمر وأقرَّه فانظر إلى هذه السِّلسلة ما أوثق عُراها . وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استكتبه ..., ثمَّ صالحه وأقرَّ له بالخلافة الحسن بن عليِّ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم .
16- يقول ابن تيمية – رحمه الله - : واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك, كان ملكه ملكا ورحمة وقال : فلم يكن من ملوك المسلمين خيراً منهم في زمان معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل,
وذكر ابن تيمية قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز فقال : فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا : في حلمه, قال لا والله في عدله.
17- وقال الذهبي – رحمه الله - : أمير المؤمنين, ملك الإسلام وقال ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهَنَات, والله يعفو عنه وحسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم – هو ثغر- فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضى الناس بسخائه وحلمه ... فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفرط حلمه وسعة نفسه وقوة دهائه ورأيه .
18- وقال ابن كثير رحمه الله - : وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه السنة التي كانت فيها وفاته, والجهاد في بلاد العدو قائم, وكلمة الله عاليه, والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض, والمسلمون معه في راحة وعدل, وصفح وعفو ..
وقال : كان حليماً وقوراً, رئيساً, سيداً في الناس, كريماً, عادلا, شهماً . وقال عنه أيضاً : كان جيد السيرة, حسن التجاوز جميل العفو, كثير الستر رحمه الله تعالى .
19- قال ابن خلدون رحمه الله :
{ وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة....
...والحق إن معاوية في عداد الخلفاء وإنَّما أَخَّره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين :
...الأمر الأول : إن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدّمناه من العصبية التي حدثت لعصره, وأما قبل ذلك فكانت اختياراً واجتماعاً, فيمَّيزوا بين الحالتين....
فكان معاوية أوّل خلفاء المغالبة والعصبَّية الذين يعبرّ عنهم أهل الأهواء بالملوك, ويشبِّهون بعضهم ببعض, وحاش لله أن يشبَّه معاوية بأحد ممَّن بعده. فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانيَّة ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس, ..
...ولا يقال : إن الملك أدون رتبة من الخلافة, فكيف يكون خليفة ملكاً, واعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هي الجبروتّية المعبَّر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها, وأما الملك الذي هو الغلبه والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوَّة, ...
...فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات الله عليهما نبيَّين ومَلِكيْن كانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربِّهما عز وجل....
... ومعاوية لم يطالب بالملك ولا أبَّهته للاستكثار في الدنيا, وإنما ساقه أمر العصبية بطابعها لمّا استولى المسلمون على الدولة كلّها, وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستفحل العصبية وتدعو لطبيعة الملك ...
...وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده, إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استفحال أحكامه ودواعيه والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار, لا بالواهي, فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين, ومن خرجت أفعاله من ذلك فهو من ملوك الدنيا, وإن سميّ خليفة بالمجاز....
...الأمر الثاني : في ذكر معاوية مع خلفاء بني أميه دون الخلفاء الأربعه إنهم كانوا أهل نسب واحد, وعظيمهم معاوية فجعل مع أهل نسبه والخلفاء الأولون مختلفون الأنساب, فجعلوا في نمط واحد, وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريباً في الفضل .... }
وكلام بن خلدون ليس على اطلاقه وفيه نوع من المبالغة فهذه أقوال علماء الأمة من الصحابة والتابعين ومن تلاهم في الثناء على معاوية رضي الله عنه .
فهو أحد ملوك المسلمين ومن خيارهم الذين غلب عدلهم وظلمهم وما هو ببريء من الهنات والله يعفو عنه, وهو على دين كما قال معاوية عن نفسه : يقبل الله فيه العمل ويجزي فيه بالحسنات, ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء,
ولقد تعّرض معاوية رضي الله عنه ودولته ودولة بني أميه عموماً لسهام بعض الكتاّب, وزعم بعضهم أنها دولة مدينه, وقال بعضهم : أنها كانت دولة عربية ولم تكن دولة إسلامية؛ بل قال بعضهم : إنها دولة علمانية لاصلة لها بالدين, ولا بالأخلاق, !!!
وهذه فرية تكذبها حقائق الدين وشواهد التاريخ, أما حقائق الدين, فقد بدأت دولة بني أمية 40 هـ من الهجرة, واستمرت إلى سنة 132 هـ. فقد شملت القرون الثلاثة التي هي خير قرون الأمة : قرن الصحابة, وقرن التابعبن, وقرن أتباع التابعين ..
وهي التي جاءت بها الأحاديث الصحاح المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل حديث ابن مسعود؛ خير القرون قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم ,
ومثله حديث عمران بن حصين : خيركم قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم قال عمران : لا أدري : أذكر النبي بعد قرنين أو ثلاثة ..
وكذلك حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً : قال يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال : فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال : نعم, فيفتح. ثم يأتي زمان, فيقال : فيكم من صحب من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال : نعم فيفتح .
ومعنى قول "قرْني" أي أهل عصري. وهم الصحابة ثم قرن التابعين, ثم قرن الأتباع,
ومن الأحاديث الصحيحة التي يستدل بها على منزلة الدولة الأموية من الإسلام. مارواه البخاري في صحيحه عن خالد بن مهران : أن عمير بن الأسود العنْسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت, وهو نازل في ساحة حمص, وهو في بناء له, ومعه أم حَرام (زوجه)...
قال عمير : حدثتنا أم حرام : أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا . (أى فعلوا فعلا وجبت لهم به الجنة)..
قالت أم حرام قلت : يا رسول الله, أنا فيهم؟ قال : أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر : مغفور لهم : فقلت : أنا فيهم يا رسول الله؟ قال : لا ,..
ومدينة قيصر هي القسطنطينية, عاصمة الدولة البيزنطينية .
قال الشراح : في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر, وذلك في خلافه عثمان مازال معاوية يغريه بالغزو في البحر, حتى استجاب له, وبدأ الأسطول الإسلامي منذ عهد عثمان, ثم اتسع وازداد في عهد معاوية ,
والذي يهمنا هو أن هذا الجيش المغفور له بالجملة, كان في عهد بني أمية. إذ كانت هذه الغزوة سنه اثنين وخمسين من الهجرة النبويه , أى في عهد معاوية .
ومن نظر في سيرة معاوية بعد أن آلت إليه الخلافة, وبعد تنازل الحسن السبط رضي الله عنه له, وتأمل هذه السيرة بإنصاف : وجد الرجل حريصاً على إقامة الإسلام في شعائره وشرائعه, وعلى اتباع السنة النبوية في مجالات الحياة المختلفة.
--------------------------------------------------------------------
اشتهار معاوية بالحلم
اشتهر أمير المؤمنين معاوية بصفة الحلم وكان يضرب به المثل في حلمه رضي الله عنه, وكظم غيظه وعفوه عن الناس
وقد ذكر ابن كثير ما كان يتصف به أمير المؤمنين معاوية من الحلم حيث قال :
(وقال بعضهم : أسمع رجل معاوية كلاماً سيئاً شديداً, فقيل له : لو سطوت عليه : فقال: إني لأستحي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي, ..
وفي رواية قال له رجل : يا أمير المؤمنين ما أحلمك!! فقال : إني لا ستحي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي .
وقال الأصمعي عن الثوري قال : قال معاوية : إني لأستحي أن يكون ذنب أعظم من عفوي, أو جهل أكبر من حلمي, أو تكون عورة لا أواريها بستري.
وقال معاوية : يابني أمية فارقوا قريشاً بالحلم, فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما, وأرجع وهو لي صديق, إن استنجدته أنجدني, وأثور به فيثور معي, وما وضع الحلم عن شريف شرفه, ولا زاده إلا كرماً,
وقال أيضا : لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم ..
وسئل معاوية : من أسود الناس؟ فقال : أسخاهم نفساً حين يسأل, وأحسنهم في المجالس خلقا, وأحلمهم حين يستجهل ,
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات كثيراً :
فما قتل السفاهة مثل حلم
يعود به على الجهل الحليم
فلا تسْفَه وإن ملِّئتَ غيظاً
على أحد فإن الفحش لُوْمُ
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب
فإن الذنب يغفره الكريم
وكتب معاوية إلى نائب زياد( بن أبيه) : إنه لا ينبغي أن يُساسَ الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا, ولا بالشدة فيُحَْمَلَ الناس على المهالك, ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة, وأنا للين والألفة والرحمة, حتى إذا خاف خائف وجد بابا يدخل منه .
وكان لتخلقه بخلق الحلم الذي لم يخالطه ضعف أثر في نجاحه في تثبيت أركان دولته, وذلك بمقدرته الفائقة على امتصاص غضب المخالفين, وتحويلهم إلى الرضى والقناعة بسياسته,
ولقد أثنى على أمير المؤمنين معاوية حكماء عصره وذكروا اتصافه بمكارم الأخلاق وخاصة الحلم, وفي ذلك يقول الحافظ بن كثير :
(وقال عبد الملك بن مروان - يوما وذكر معاوية فقال -: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه , وقال قبيصة بن جابر : مارأيت أحداً أعظم حلماً, ولا أكثر سؤدداً, ولا أبعد أناة, ولا ألين مخرجاً, ولا أرحب بالمعروف من معاوية ....
...وقال عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما : لله در ابن هند, إن كنا لنُفرْقه , وما الليث على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا, وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلةٍ من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا, والله لوددت أنا مُتِّعنا به مادام في هذا الجبل حجر- وأشار إلى جبل أبي قبيس .
ويصف حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما سياية معاوية بكلام موجز, لكنه يعني خلاصة تفكير عميق حيث يقول :
( قد علمت بِمَ غلب معاوية الناس, وكانوا إذا طاروا وقع, وإذا وقع طاروا )
وهذا يعني أنه إذا رأى السيول الجارفة قد أقبلت لم يقاومها, وإنما يفسح لها حتى تمر, ثم يحتوي الميدان وقد زال إقبال الناس الشديد فيتمكن مما يريد,
وقد عبر معاوية عن هذه السياسة بقوله المشهور :
(لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت, إذا جذبوها أرخيتها, وإذا أرخوها جذبتها )
ومن مواقفه في الحلم أنه : جرى بين رجل يقال له أبو جهم وبين معاوية كلام, فتكلم أبو جهم بكلام فيه غَمْرٌ لمعاوية, فأطرق معاوية ثم رفع رأسه فقال : يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان ويأخذ أخذ الأسد, وإن قليله يغلب كثير الناس, ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمال, فقال أبو الجهم في ذلك يمدح معاوية :
نميل على جوانبه كأنا
نميل إذا نميل على أبينا
نُقلِّبه لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرماً ولينا
و لحلم معاوية الكبير وما يتصف به من الشجاعة والعزة فإن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أثنى عليه بقوله :
(دعوا فتى قريش وابن سيدها, إنه لمن يضحك في الغضب ولا يُنال منه إلا على الرضا, ومن لا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه )
فهذا قول دقيق من عمر في وصف معاوية, فقد وصفه بالدرجة العالية من الحلم, والعزة التي تجعله منيعا لا ينال ما عنده على قهر منه, وهذه الصفة من صفاته التي جعلة أمير المؤمنين عمر يبقيه أميراً على الشام لخطورة ذلك الثغر .
وقال معاوية رضي الله عنه :
( العقل والحلم أفضل ما أعطي العبد, فإذا ذُكِّر ذكر وإذا أُعطي شكر, وإذا بتلي صبر, وإذا غضب كظم, وإذا قدر غفر, وإذا أساء استغفر, وإذا وعد أنجز ) ..
فهذا الخبر على قصره قد جمع ستة موضوعات, كل موضوع يحتاج إلى أن يكتب عنه في صفحات, وهذا من جوامع الكلم, وهو يعتبر من أعلى أنواع البلاغة, وذلك في جمع المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة,
وقد اشتهر في هذا البيان عدد من الصحابة رضي الله عنهم تتلمذوا في ذلك على رسول الله صلى الله الذي أوتي جوامع الكلم .
--------------------------------------------------------------------
سنعود ان شاء الله لإرفاق الإشارات بمصادرها هنا
☆ الدولة الأموية عوامل الإزدهار و تداعيات الإنهيار علي الصلابي ص 125 وما بعدها
--------------------------------------------------------------------
إرسال تعليق