تاريخ الدولة العثمانية (19) بعد فتح القسطنطينية محمد الفاتح يواصل فتوحاته

 تاريخ الدولة العثمانية   (19)

--------------------------------------------------------------------

 بعد فتح القسطنطينية محمد الفاتح يواصل فتوحاته



-------------------------‐-------‐--------------------------‐-------

🔹  فتح بلاد الإغريق (اليونان)

ُ

 أتم السلطان محمد الثاني فتح القسطنطينية و عمره  لا يزيد على ثلاثة وعشرين عاما، فكان أكبر من الإسكندر المقدوني بسنة واحدة في الوقت الذي فاز فيه بانتصاره الباهر على الفرس في موقعة جرانيكوس .


ُ على أن السلطان الفاتح لم يهدأ له روع، ولم يخلَد إلى السكينة بعد ذلك الفتح العظيم؛ فهو ابن الحرب، نشأ في ميادينها ونبغ فيها، وقضى بقية حياته يستعد لها أو يخوض

ِغمارها .


 وكانت الظروف السياسية في البلقان تُرغمه على السير في فتوحاته، فكان عليه أن ينظف البلقان وشبه الجزيرة اليونانية من بقايا الدولة البيزنطية الغابرة، ومن المستبدين

البيزنطيين ، والمغامرين الإيطاليين. 


لقد كانت هناك إمارات أو دوقيات مشتَّتة مبعثرة بعيدة عن بعضها لم تحاول قَط ِ جمع قواها لمواجهة الخطر العثماني الجارف، ولم تستفد شيئًا من الدرس القاسي الذي ذاقته بيزنطة ومدينة قسطنطين الأكبر .


لقد كان البنادقة في أوائل القرن الخامس عشر يسيطرون على معظم البلوبونيز وأبيروس وعدد كبير من جزر بحر الأرخبيل وجزيرة كريت .. 

وسقطت أجزاء من شبه جزيرة المورة في يد الفرنسيين ولكن جمهورية البندقية كانت متمسكة بالأشراف على السواحل، وتركت السيطرة على جزر بحر الأرخبيل لأفراد منها مغامرين.

 

وكانت الفوضى في هذه الأجزاء جميعها منعدمة النظير، فقامت الحروب والثورات والمنازعات الداخلية التي لا تنقطع بين الكتلان(نسبة إلى كتالونيا بإسبانيا) — وبين الإيطاليين

والفرنسيين ، ...


وكان في آخر الأمر أن أخلى العنصر الفرنسي السبيل أمام العنصر الإيطالي، كما حل الإيطاليون محل الكتلان  عن طريق الفتح أو الشراء أو إقراض المال. 


وتدخل الأتراك أنفسهم فيما بين هؤلاء الأمراء ينصرون فريقًا على فريق، ثم يأخذون في آخر الأمر ممتلكات الفريقين إذا وجدوا ذلك أمرا هينًا أو إذا ضعف الفريقان أمام قوتهم.


لقد كثرت في البلقان وشبه الجزيرة اليونانية الهجرة وانتقال السكان من مكان إلى مكان، وحلَّت عناصر وجنسيات محل أخرى أو طغت عليها فظهر الألبانيون والأفلاقيون، واستقروا في جاليات قوية في معظم أجزاء البلقان، وحوصرت المدن وفُتحت أو تُركت  وسِكنت أو خربت .


ولم يكن السلطان محمد الفاتح هو أول من غزا هذه البلاد؛ فلقد غزاها من قبله عددَّ من السلاطين، ..


غزاها السلطان بايزيد الأول، ثم السلطان مراد الثاني، بعث إليها من قُوِادِه من استطاع اكتساحها من أقصاها إلى أقصاها، ولكن العثمانيين لم يثبتوا أقدامهم فيها نهائيٍّا إلا في عهد محمد الفاتح.


ُ كان من أكبر الإمارات الإغريقية إمارة أثينا، وكانت فوضى الحكم فيها على أشِّدها،..فلقد مات دوقها وخلف الحكم لزوجته وابنه،..


 فأما زوجته فلقد جعلت من عرش الإمارة فراش غرام، فأحبت أحد الدوقات الآخرين ولم تقبل الزواج منه إلا إذا طلق زوجته الأصلية وأهلكها !!!


وفعلا تََّم لها ما أرادت، وذهب الساخطون على ذلك السلوك إلى السلطان يطلبون منه النجدة والتدخل، فأرسل لهم دوقًا آخر لم يفتر حتى قتل الدوقة المولعة بالغرام،

ُّ

َ وقامت فوضى لم يرض معها السلطان الفاتح إلا أن يرسل قائده عمر بن طرخان لاحتلال أثينا ونشر الأمن والنظام في هذه الأرجاء وحماية هؤلاء الطغاة والمستبدين من أنفسهم.


وظهر السلطان محمد الثاني في أراضي الإغريق كالحكم القوي العادل الذي يقبله الجميع، ويخضع له الجميع راضني. 


لقد وصل إلى بلاد المورة في سنة ١٤٥٨م لكي يعطيِّ الطغاة والمستبدين الإغريق واللاتين درسا قاسيًا في فَِّن السياسة والحكم، فاستولى على حصونهم، وقضى على محبي الفوضى، وفتح القساوسة له أبواب مدنِهم ، وتلقَّوه بالترحاب حتى يحظوا بحمايته، ويطمئنوا إلى رعايته. 


ثم زار مدينة أثينا وهاله جمال آثارها القديمة، فمكث فيها مليٍّا. وفي السنتين ١٤٥٩ - ١٤٦٠م تمكن من إخضاع شبه جزيرة الإغريق إخضاعا تاما فأصبحت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر .

------------------------

 🔹 إخضاع الصرب


أما مع أمراء البلقان — وخاصة الصرب — فكانت سياسة السلطان محمد الثاني قبل فتح القسطنطينية هي توثيق علاقات الود والصداقة بهم والعمل على كسب رضاهم حتى

ٍ ينتهي من مهمته العظيمة، وحينئذ يستطيع إخضاعهم الواحد تلو الآخر.


 كان يعرف أن الصرب الشمالية بصفة خاصة الصرب التي يحكمها برانكوفتش مذبذبة بين الأتراك والمجريين ؛ تُِحالف هذا الفريق حينًا، وتدفع عنها بالمال حينًا خطر الفريق الآخر.


ً ولذا نجد السلطان محمدا يعترف بالمعاهدة التي عقدها السلطان مراد الثاني مع إمارة الصرب الشمالية، هذه المعاهدة التي لا تفرض على هذه البلاد إلا جزية سنوية تدفعها للدولة العثمانية وتتمتع في نظيرها بالاستقلال التام في أمورها الداخلية،


 كما أرسل إحدى زوجات أبيه السلطانات وهي صربية، إلى بلادها محاطة بكل مظاهر الحفاوة والإكرام، وأجرى عليها النفقات الكثرية.


وكان هدف السلطان من وراء ذلك منع برانكوفتش الأمير الصربي من الاتفاق مع المجر على نقض الهدنة التي عقدها السلطان معهم أثناء حصار القسطنطينية، وفعلا تم له ما أراد .


أوفى برانكوفتش بما عاهد عليه السلطان، كما لم يقُم بأي مساعدة للقسطنطينية وقت محنتها، تلك المدينة التي اشترك بنفسه في تجديد أسوارها وتحصيناتها ؛ بل وأرسل رسله للسلطان يهنئونه بهذا الفتح العظيم ويقدمون له الجزية . 


ولكن السلطان كان قد قرر إخضاع هذه البلاد نهائيٍّا للحكم العثماني. فالصرب بلاد زراعية، غنية بالمعادن وخاصة الفضة وبمراعيها الجيدة ومدنها المزدهرة، ثم بعد ذلك أصبح يرى أن ضم الصرب أمر لا محيص منه لمهاجمة الأفلاق (رومانيا) والمجر .


ولذا توجه السلطان محمد الثاني الفاتح بقوة كبيرة إلى بلغراد للقضاء نهائيٍّا على الصرب، ولتهديد المجر في وقت واحد . 


ولكن إذا كان السلطان لم يُفلح في الاستيلاء على مدينة بلغراد إلا أن خصمه العنيد هونيادي مات بعد وقت قصير، 


وقُرر مصير برانكوفتش فلقد أسر  ذلك الأمير وسجن، وترك الإمارة لزوجته إيرين وابنه فقام النزاع بينهما إلى درجة أن الابن رفض أن يفتدي أباه من الأسر، ثم ماتت إيرين، ودفع ابن ُ برانكوفتش الجزية، ولكنه لم يكن مخلصا لا لرعاياه ولا للسلطان ! 


ثم فارق الحياة، فقام نزاع شديد على تولي الإمارة، وقرر السلطان وضع حٍّد لهذه الفوضى فضم الصرب إلى الدولة

نهائيٍّا في سنة ١٤٥٩م، فأصبحت مجرد بشاليق، تركي، وانتهى بذلك تاريخ آخر إمارة صربيا  في العصور الوسطى،..


 وظلت الصرب هكذا جزءًا لا يتقسم من الدولة العثمانية إلى

أوائل القرن التاسع عشر حتى أيقظتها الثورة الفرنسية وحروب نابليون إلى طلب الحكم الذاتي والاستقلال .

------------------

🔹العلاقات العثمانية المجرية في عهد محمد الفاتح


ِ كانت المجر مجاورةً للدولة العثمانية من الجهة الشمالية الغربية، وكانت أقوى دولة مسيحية في وسط أوروبا من الناحية الحربية ؛ فالشعب المجري ظل محتفظا — كالأتراك

— بحيويته ونشاطه وقوته، وكان ملوكه يعتبرون أنفسهم زعماء المسيحية، وأصبحت المسيحية تعتمد على المجر إلى حٍّد كبير في وقْف تقدم الأتراك إلى وسط أوروبا.

َ 

ِّ ولكن هذه الدولة القوية لم تكن متفرغة تماما لهذه المهمة الخطيرة، فلقد كانت دائماَ مهتمة بمِّد نفوذها على ساحل البحر الأدرياتيكي ؛ مما دعا إلى اصطدامها بجمهورية البندقية،

َّ 

ثم من ناحية ثانية كانت حكومة المجر قد وجهت عنايتها إلى القضاء على المنقسمين على الكنيسة الكاثوليكية، فكانت تعمل جادة على فرض نفوذها على الصرب المجاورين لها

حتى تستطيع أن تُِدخلَهم في حظيرة الكثلكة وتخرجهم من الأرثوذكسية، 


وكرس الإمبراطور لويس حياته لخدمة ذلك الغرض ولم يقم بمساعدة الإمبراطور البيزنطي باليولوجوسً نظرا للاختلاف المذهبي، فأعطى العثمانيين فرصة لوضع أقدامهم في أوروبا.


ثم انشغلت المجر بمنازعاتها مع بولونيا (بولندا) وبنضالها ضد التتار، ولقد حاول ملوك أنجو الذي حكموا المجر على عهد العثمانيين الأوائل إدخال العادات الغربية فشهدت هذه البلاد

ً فوق مشاكلها الخارجية نضالا داخليٍّا بين النظم المجرية الأصلية والنظم الغربية كما شغلت بمسائل النزاع على العرش، 


وأخيرا اختار الديت (المجلس) المجري الأمير سجسمند، ولكن

عهده لم يكن عهد استقرار أو اطمئنان، فقامت الثورات في أوائل عهده وأخذ الترك يُِغيرون على حدود بلاده خاصة بعد أن سقطت صربيا . 


كان على المجر أن تتخذ خطة الدفاع ضد الأتراك في أول الأمر  ولكنها عادت فرأت أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، ولكن قوتها الحربية لم تكن تستطيع وحدها الوقوف أمام قوة الأتراك؛

 ولذا طلبت النجدة من ألمانيا وفرنسا ، ووجدت هاتان الدولتان تَُعزُزهَما البابوية ضرورة مؤازرة هذه الدولة التي

يقع عليها عبءُ المحافظة على أبواب أوروبا الوسطى، 


وكانت نتيجة هذا الاتِّفاق موقعة نيكوبوليس في سنة ١٣٩٦م، في هذه الموقعة قضى الأتراك على زهرة فرسان ألمانيا وفرنسا والمجر، وأصبح الترك سادة الدانوب الأدنى، وهرب سجسمند، ولولا مساعدة البندقية له على الهرب لوقع في يد الأتراك وهلَك.


 كان سجسمند من غلاظ القلوب، عاش حزينًا مضطهدا من شعبه، فقامت ضده المؤامرات والثورات وقُِبض ُ عليه وسجن ثم أْطِلَق سراحه فعاد إلى العرش، ...


ولسوء حظ المجر انتخب ذلك الملك البائس في سنة ١٤١١م إمبراطورا لألمانيا، فلم يعد للمجر كيان مستقل كامل وأصبحت مصالحها جزءًا من مصالح العالم الألماني،

وزادت مشاكلها وثارت المنازعات من جديد بين المجر وجارتها البندقية، خسرت فيها المجر  دلماشيا.

ً 

ثم تعقَّدت المهزلة فاختير سجسمند ملكا لبوهيميا فتجمعت ثلاثة تيجان على رأس شخص ينوء تحت عبء تاج واحد ولا يُحسن التصرف في أمور مملكة واحدة.


وزادت مشاغل سجسمند وكثر اضطراب الأمور عليه حين حاول القضاء على أتباع مذهب حنا هوس، وكانوا كثريين في المجر لأنهم نادوا بالمساواة بين الناس، وبأن الملكية يجب أن تكون عامة.


ً وبالرغم من كل هذه المشاغل والمشاكل كانت المجر دولة قوية؛  لأن سجسمند اهتم بتحصين الحدود الجنوبية الملاصقة للأتراك وجعل مدينة بلغراد عند ملتقى نهر الدانوب بالسافا حصنًا منيعا من الطراز الأول ؛...


 ولأن النظم المجرية عملت دائما على وجود جيش قوي يجتمع وقت الحاجة، كما اهتمت الحكومة بإنشاء أساطيل نهرية قوية في نهرً الدانوب لحماية الحدود الجنوبية. 


 كما تجمع النبلاء حول هونيادي وقبلوا زعامته مخلصين له الطاعة، كما هاجر عدد كبير من الصرب الأشداء إلى بلاد المجر وخدموا في الجيش المجري .


ومن أجل ذلك كانت المجر قادرة على الوقوف أمام العثمانيني مدة طويلة، في الوقت الذي لم يستطع فيه الإغريق والصرب والبلغار تحمل ضربات الأتراك القوية، ...


ولكنها بصفةِ عامة لم تستطع النجاح في اتخاذ خطة الهجوم ضد الأتراك وتحملت الفشل المرير، حتى في أوج عظمة زعيمها جانوس هونيادي الذي سجله التاريخ كأكبر عدو للأتراك، وأعظم وأقدر خصم قابلهم وجها لوجه في ميدان القتال.

ُ 

وتحت زعامة جانوس هونيادي ارتفعت المجر إلى مركز المدافع عن المسيحية أمام قوة الأتراك الجارفة، ...


لقد كان هونيادي من الشبان الافلاق البارزين(جنوب رومانيا حاليا)  الأرستقراطيين الذين دخلوا في خدمة سجسمند، فأعجب بمقدرته أيما إعجاب، ورقَّاه في بلاطه واقترض الأموال منه ومنحه إقطاعات على الحدود المجرية العثمانية ؛ الأمر الذي جعل لذلك الرجل مصلحة دائمة في مناضلة الدولة العثمانية ودفعها عن الأراضي المجِريَّة. 


 والواقع أن الحرب التيِ كانت سجالا بين المجر والأتراك قامت على أكتاف ذلك الزعيم هونيادي.


 كان هونيادي رمز الفروسية المسيحية في ذلك الوقت، وبطلا من أبطال المجر،  وعظم اهتمامه بفن الحرب ، و كان يطلق عليه فارس الأفلاق الأبيض خصم الأتراك العنيد في ميدان الحرب وميدان السياسة .

َ 

لقد استطاع هذا الزعيم المجري في موقعة سمندريا أن يخلص الصرب من الحكم العثماني وهزم العثمانيين مرارا إلى درجة أن اضطَّر السلطان مراد الثاني والد الفاتح وكان كبير الميل إلى السلم، اضطر أن يطلب عقد صلح معه لمدة عشر سنوات لمصلحة المسيحيين دون ريب.


وكانت زعامة هونيادي في المجر تامة حني ورث العرش بعد سجسمند طفل لا زال صبيٍّا، ولكن سلطته عادت فضعفت حين اختير فلاديسلاف ملكا للمجر، فلم يستمع الملك الجديد لنصيحة هونيادي وحنث في عهده للأتراك، 


وأعفاه مندوب البابا من اتفاقه مع  السلطان مراد الذي كان قد أخلد إلى حياة الراحة والهدوء فاضطَّر السلطان العثماني إلى معاودة الحرب من جديد وقاتل بعنف قوة المجرين في موقعة ورنه وقتل فلاديسلاف الملك المجري وحملوا رأسه على رمح، ولم ينج هونيادي نفسه من الموقعة إلا بكل صعوبة وفي نفر قليل .


قِتل ملك المجر إذن في ميدان القتال وقرر مجلس الدولة المجري قيام حكومة مؤقتة على رأسها هونيادي، وحاول هونيادي الانتقام لشرف المجر المنهار في ورنه، ولكن في مكان موقعة قوصوه(كوسوفو) حيث قضى السلطان مراد الأول على قوة الصرب، وبنفس المكان قابل مراد الثاني قوات المجر وقضى عليها في سنة ١٤٨٨م،..


 فلم تجرؤ المجر على اتِّخاذ خطة الهجوم ضد العثمانيين أو تُفَِّكر ِجِّديٍّا في الانتقام مرة ثانية، وظلَّت الحال على ذلك إلى أن جاء السلطان محمد الثاني .


لم تؤثر موقعة قوصوة التي هِزَم فيها هونيادي على مركزه أو تعلق الشعب المجري به أو التفافه حوله، بل جعلت ذلك الشعب ينظر إليه  أنه الشخصية الوحيدة التي تستطيع

إنقاذ المجر من الأتراك إذا حاولوا الاعتداء عليها، وشغل هونيادي بمشاغل عديدة داخلية وأخرى خارجية، أهمها صلات المجر مع النمسا وبوهميا (التشيك حاليا)،


 و لقد هزم هونيادي أمام أعدائه الأشداء ؛ ولذا قبل ذلك الزعيم المجري راضيًا الهدنةَ التي عرضها عليه السلطان محمد

الثاني .


 ولما سقطت القسطنطينية في يد الأتراك اجتمع الديت المجري في بودا (بست) وقرر إعداد النفقات اللازمة في حالة هجوم الأتراك العثمانيين على البلاد . واستنجد برانكوفتش الصربي بالمجر، وقامت حركة صليبية تدعو المجر إلى مقاومة العثمانيين،..


 ولكن لم يكن للمجرِ حلفاء تستطيع الاعتماد عليهم، وكان مركز هونيادي نفسه آخذًا في التزعزع، فله في القصر

ُ منافسون حاقدون عليه، ولم تكن الملكية راضية عنه، فلم تكن الدولة المجرية إذن في مركز يسمح لها بالهجوم على الأتراك.


ولكن الأتراك لم ينتظروا هجوم المجريين بل قاموا هم بالهجوم، ...


لقد زحف السلطان محمد الفاتح على بلغراد — مدينة الجهاد في نظر الأتراك — في سنة ١٤٥٦م بقوة كبيرة ومدفعية ضخمة، وكانت بلغراد في ذلك الوقت تُعتَبر مفتاح بلاد المجر، 


وبذل هونيادي كل ما يملك من قوة وحماس في الدفاع عن هذه المدينة وأيدته أوروبا تأييدا عظيما؛ فسقوط المجر في ذلك الوقت معناه سقوط وسط أوروبا بأجمعه في أيدي الأتراك، ..


ولهذا هرع لنجدته ستون ألف صليبي بقيادة الراهب كابستران، ناداهم البابا فلبَّوا نداءه، فلقد ملأ فتح القسطنطينية أوروبا بالعار والغضب والخوف.


وكانت ظروف بلغراد غير ظروف القسطنطينية، فوراء بلغراد العالم المسيحي متحفز للوقوف أمام الأتراك والدفاع عن مسيحيته وتقاليده وما يملك. 


ومن ناحية ثانية حارب العثمانيون أمام بلغراد في منطقة لم يملكوها هم، كلها معادية لهم، ومن ناحية ثالثة طالت خطوط المواصلات والتموين، بينما كان المجريون يحاربون في بلادهم، 


ويظهر أن الأتراك في هذه المرة أصابهم بعض الغرور بانتصارهم الحاسم على البوسفور، وحملوا معهم مدفعية ثقيلة عاقت سرعة حركاتهم، وانهزم أسطولهم النهري انهزاما حاسما أمام أسطول المجريين.


كانت الموقعة في أول الأمر في صالح العثمانيين؛ فقد تمكنت المدفعية العثمانية المتفوقة من تحطيم أسوار المدينة، وتمكنت بعض فرق الإنكشارية من دخول بلغراد، وظن العثمانيون أن الموقعة قد انتهت بينما كانت المدينة ملأى بالجنود تِّوجُههم قيادة ممتازة ؛


ْ ولذا اضطَّر الأتراك إلى الانسحاب من الجزء الذي احتلوه، وحاول السلطان محمد إقناع جنوده بالثبات، وحارب في صفوفهم بنفسه، وقتَل بيده أحد زعماء الصليبيين، ولكنه اضطَّر َّ  في آخر الأمر إلى الانسحاب بعد أن تمكن من تنظيم التقهقر  بعد أن قتل من الإنكشارية عدد كبير .


وكان السلطان  سعيد الطالع ؛ فلقد تمكن من التقهقر ومن إعادة تنظيم قواته، ومن مدافعة أعدائه بعنف بحيث لم يستطيعوا تتبُّعه، 


ومن ناحية  أخرى مات هونيادي بعد عشرين يوما من الموقعة، كما مات زعيم الصليبين جون كابستران الذي جاء لنجدة المجر .


وبموت هونيادي انتهى أقوى عدو للأتراك وللمسلمين، فبموته كما يقول البابا  سلفيوس «ماتت آمالنا»، 


ولقد أبَّنَه معاصروه، ووصفوا شجاعته وقدرته وقيمته للمسيحية في ذلك الوقت الخطر؛ فلقد قام هذا الرجل بحماية المجر، بل وحماية ألمانيا من الفتح العثماني، كما أخر مشاريع محمد الفاتح بالنسبة لإيطاليا.


لم تكن موقعة بلغراد بعظيمة الخطر على مركز العثمانيين في أوروبا وإن كانت قد أنقذت مدينة بلغراد والمجر من أن تقع في أيديهم مدة من الزمن، ولكنها لم تمنع العثمانيين

من نشر نفوذهم في بقية أجزاء البلقان في البوسنة والهرسك والصرب وألبانيا، ...


 فما كانتِ المجر التي ذاقت قوة العثمانيني مرارا تجرؤ أبدا على اتِّخاذ خطة الهجوم ضد السلطان محمد الفاتح، فنشاطها استنفذ من ناحية، ومن ناحية ثانية هلك أكبر رجالها الحربيين الذي تستطيع أن تثق فيه وأن تضع مقاليد أمورها بني يديه.

ُ 

وفوق ذلك فملكها كان لا يزال حديث السن لا يُحسن التصرف في أمور الملك، ولا يوجد بين الأرستقراطيين المِجريين من يقوم مقام هونيادي، بل لقد قابل الملك أعمال الزعيم الراحل بالجحود والنكران، فلقد أمر بقتل ابنه وتشويه سمعته وتصوير خيانته وصب عليه اللعنات.

ِ 

ولكن الملك المجري لم يعش طويلا فمات سنة ١٤٥٨م، وشاءت الأيام أن تعترف المجر بجميل فارسها، فقرر الديت المجري تعيين ابنه ماتياس كورفينوس ملكا على المجر .


ِ ولئن كان ماتياس ورث عن أبيه فروسيته وقدرته على قيادة الرجال إلا أنه لم يرث عداوته للأتراك. وكان مهتما بالأمور الداخلية، و بالقضاء على ثورات من حاولوا منافسته، ولم يستطع أن يعمل شيئًا أمام قوة الأتراك؛ 


فلقد قام السلطان محمد الفاتح بالهجوم مرة ثانية فافتتح البوسنة وثبت أقدامه فيها رغم أنف المجر، وحاول

ماتياس أن يضم البابا والبندقية إلى جانبه فلم يُفلح، ولما اقترح ملك فرنسا تكوين عصبة دول مسيحية ضد الأتراك رفض كورفينوس الانضمام؛ لأنه كان موقنًا أن الحرب ستكون

على حساب المجر وحدها .


ومن الغريب أن ماتياس لم يهتم بالخطر التركي بقدر ما اهتم بالقضاء على حركة هوس في بوهيميا؛ فهو كاثوليكي متعصب قبل كل شيء وشغلته نزاعاته مع الإمبراطور الذي حاول التدخل في شئون المجر الداخلية، كما شغلته اختلافاته مع بوهيميا.


 ولقد هاجم الأتراك فعلا جنوب المجر، وعاونوا الثائرين على ماتياس ولكنهم أجلوا هجومهم النهائي عليها إلى عهد السلطان سليمان القانوني الذي سيقضي على قوة المجر

ودولتها نهائيٍّا في موقعة موهاكس  آخر الربع الأول للقرن السادس عشر .

ُ--------------------------------------------------------------------

☆ السلطان محمد الفاتح  لمحمد مصطفى صفوت ص81-89

--------------------------------------------------------------------

تابعوا

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم

التاريخ الاسلامى

2/recent/post-list