سيرة الصديق أبى بكر رضي الله عنه 🚩 (1-5)
بين القبائل العرب في الأسواق :
قد علمنا أن الصديق رضي الله عنه كان عالماً بالأنساب وله فيها الباع الطويل: قال السيوطي رحمه الله تعالى: رأيت بخط الحافظ الذهبي رحمه الله من كان فرد زمانه في فنه... أبوبكر في النسب(*16)،
ولذلك استخدم الصديق هذا العلم الفياض وسيلة من وسائل الدعوة ليعلم كل ذي خبرة كيف يستطيع أن يسخرذلك في سبيل الله، على اختلاف التخصصات، وألوان المعرفة، سواء كان علمه نظرياً أو تجريبياً، أو كان ذا مهنة مهمة في حياة الناس(*17)،
وسوف نرى الصديق يصحبه رسول الله ﷺ عندما عرض نفسه على قبائل العرب ودعاهم الى الله كيف وظف هذا العلم لدعوة الله فقد كان الصديق خطيباً مفوهاً له القدرة على توصيل المعاني بأحسن الألفاظ،.....
وكان رضي الله عنه يخطب عن النبي في حضوره وغيبته، فكان النبي ﷺ إذا خرج في الموسم -يدعو الناس الى متابعة كلامه تمهيداً وتوطئة لما يبلغ الرسول، معونة له، لا تقدماً بين يدي الله ورسوله . ..(*18)،
وكان علمه في النسب ومعرفة أصول القبائل مساعداً له على التعامل معها،
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
{ لما أمر الله عز وجل نبيه ﷺ أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه....
إلى أن قال :
ثم دفعنا الى مجلس آخر عليه السكينة والوقار فتقدم أبوبكر فسلم فقال من القوم ؟ قالوا : شيبان ابن ثعلبة ..
فالتفت ابوبكر الى رسول الله ﷺ وقال بأبي وأمي هؤلاء غرر الناس وفيهم مفروق قد غلبهم لساناً وجمالاً ...
وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر.....
فقال أبوبكر : كيف العدد فيكم ؟!
فقال مفروق : إنا لانزيد على الألف ولن تغلب الألف من قلة.
فقال أبوبكر : وكيف المنعة فيكم ؟!
فقال مفروق : إنا لأشد مانكون غضباً حين نلقى وأشد مانكون لقاء حين نغضب وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى ... لعلك أخا قريش ( يحسبه النبي ص )؛
فقال أبوبكر : إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هوذا.
فقال مفروق : إلام تدعونا يا أخا قريش ؟
فقال رسول الله ﷺ : (أدعوكم الى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأني عبدالله ورسوله والى أن تؤووني وتنصروني فإن قريشاً قد تظاهرت على الله وكذّبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد)
فقال مفروق : وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش فوالله ماسمعت كلاماً أحسن من هذا ...
فتلا رسول الله ﷺ قوله تعالى :
{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الانعام 151
فقال مفروق : دعوت والله الى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك ثم رد الأمر الى هانئ بن قبيصة فقال : وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا...
فقال هانئ : قد سمعت مقالتك ياأخا قريش وإني أرى تركنا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا لا أول ولا آخر لذل في الرأي وقلة نظر في العاقبة أن الزلة مع العجلة وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقداً ولكن نرجع وترجع وننظر ..
ثم كأنه أحب أن يشاركه المثنى بن حارثة فقال : وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى -وأسلم بعد ذلك- قد سمعت مقالتك ياأخا قريش والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك وإنا إنما نزلنا بين صيرين أحدهما اليمامة والاخرى السمامة،
فقال رسول الله ﷺ وماهذان الصيران؟
فقال له : أما أحدهما فطوق التزيد أي ماأشرف من الأرض -وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى..
وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لانحدث حدثاً، ولا نؤوي محدثاً ولعل هذا الأمر الذي تدعو إليه تكرهه الملوك،..
فأما ماكان مما يلي على بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره غير مقبول، فإن أردت أن ننصرك مما يلي العرب فعلنا،
فقال رسول الله ﷺ : ماأسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه أريتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه ؟
فقال النعمان : اللهم فلك ذاك . ......(*19).
وفي هذا الخبر دروس وعبر وفوائد كثيرة :
1- ملازمة الصديق لرسول الله ﷺ وهذا جعله يفهم الاسلام بشموله وهيأه الله تعالى بأن يصبح أعلم الصحابة بدين الله،
فقد تعلم من رسول الله ﷺ حقيقة الاسلام وتربى على يديه في معرفة معانيه، فاستوعب طبيعة الدعوة ومر بمراحلها المتعددة واستفاد من صحبته لرسول الله ﷺ ...
وتشرب المنهج الرباني، فعرف المولى عز وجل من خلاله، وطبيعة الحياة، وحقيقة الكون، وسر الوجود، وماذا بعد الموت ومفهوم القضاء والقدر، وقصة الشيطان مع آدم عليه السلام وحقيقة الصراع بن الحق والباطل، والهدى والظلال، والايمان والكفر،...
وحببت إليه العبادات كقيام الليل، وذكر الله وتلاوة القرآن فسمت أخلاقه، وتطهرت نفسه وزكت روحه.
2- وفي رفقته لرسول الله ﷺ عندما كان يدعو القبائل للاسلام استفاد الكثير، فقد عرف أن النصرة التي كان يطلبها رسول الله ﷺ لدعوته من زعماء القبائل أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بمعاهدات دولية تتناقض مع الدعوة ولا يستطيعون التحرر منها،...
وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه يُعرضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الاسلامية خطراً عليها وتهديداً لمصالحها . ....(*20).
ان الحماية المشروطة أو الجزئية لاتحقق الهدف المقصود فلن يخوض بنو شيبان حرباً ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله ﷺ وتسليمه، ولن يخوضوا حرباً ضد كسرى لو أراد مهاجمة رسول الله ﷺ وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات(*21).
3- (إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه) كان هذا الرد من النبي ﷺ على المثنى بن حارثة حيث عرض على النبي حمايته على مياه العرب دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة يرى بعد النظر الاسلامي النبوي الذي لايسامى (*22).
4- كان موقف بني شيبان يتسم بالاريحية والخلق والرجولة وينم عن تعظيم هذا النبي،
و ينم عن وضوح في العرض، وتحديد مدى قدرة الحماية التي يملكونها وقد بينوا أن أمر الدعوة مما تكرهه الملوك،
وقدّر الله لشيبان بعد عشر سنوات أو تزيد أن تحمل هي ابتداءً عبء مواجهة الملوك، بعد أن أشرق قلبها بنور الاسلام، وكان المثنى بن حارثة الشيباني صاحب حربهم وبطلهم المغوار الذي كان من ضمن قادة الفتوح في خلافة الصديق فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد إسلامهم على قتال الفرس،
بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس ولا يفكرون في قتالهم، بل إنهم ردوا دعوة النبي ﷺ بعد قناعتهم بها لاحتمال أن تلجئهم الى قتال الفرس، الأمر الذي لم يكونوا يفكرون به أبداً، ..
وبهذا نعلم عظمة هذا الدين الذي رفع الله به المسلمين في الدنيا حيث جعلهم سادة الأرض مع ماينتظرون في أخراهم من النعيم الدائم في جنات النعيم ...(*23)
-------------------------------------------------------------------
(*1) السيرة النبوية لابن هشام (1/393).
(*2) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/345).
(*3) التربية القيادية (1/342).
(*4) تفسير الآلوسي (30/152).
(*5) ابن الدغنة: قيل اسمه الحارث بن يزيد وقيل مالك وقيل ربيعة بن رفيع. والقارة قبيلة من بني الهون بن خزيمة.
(*6) فتح الباري (7/274).
(*7) البداية والنهاية (3/95).
(*8) استخلاف ابوبكر الصديق، ص134.
(*9) تاريخ الدعوة الى الاسلام في عهد الخلفاء الراشدين ، ص88.
(*10) التاريخ الاسلامي للحميدي (ج19، 20/ص209).
(*11) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص117 هذه الرواية فيها انقطاع.
(*12) الفتاوى لابن تيمية (6/212).
(*13) احمد (1/11) وقال الشيخ شاكر اسانيدها ضعاف. وهو صحيح بطرقه وشواهده. انظر: مسند الامام احمد رقم 68.
(*14) الفتاوى (28/22).
(*15) تاريخ الدعوة الاسلامية في عهد الخلفاء، ص95.
(*16) تاريخ الخلفاء، ص100 نقلاً عن تاريخ الدعوة ، ص95.
(*17) نفس المصدر، ص96.
(*18) ابوبكر الصديق لمحمد عبدالرحمن قاسم، ص92.
(*19) البداية والنهاية (3/142، 143،145) وفيها زيادات ليست عند الصالحي في سبيل الرشاد (2/596-597).
(*20) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، محمد هيكل (1/412).
(*21) التحالف السياسي في الاسلام، منير الغضبان، ص53.
(*22) نفس المصدر، ص64.
(*23) التاريخ الاسلامي للحميدي (3/69)؛ التربية القيادية (2/20).
☆ سيرة أبي بكر الصديق للصلابي ص 49-41
-------------------------------------------------------------------
إرسال تعليق