البسوس والمهلهل (10)
-----------------------------------------
قصة أدبية تاريخية رائعة
* الفقرة الأخيرة وأهم الفقرات
------------------------------------------
🔸في الليلة التالية كانت جيبة ابنة المجلل تسير في الظلام خلسة وهي خائفة حتى بلغت خيمة المهلهل ونظرت حولها فلم تجد أحدا ؛ فدخلت فجعلت تفك وثاقه وتقطع قيوده فسألها فى دهشة : ماذا تفعلين يا أم عمرو ؟
فهمست إليه قائلة قم فأسرع قبل أن تهلك فقد أقسم عوف ألا تذوق طعاما ولا شرابا حتى يرد زبيب !
------
🔹بقي المهلهل في موضعه فحاولت إنهاضه ليهرب فجذب المهلهل نفسه بعنف وقال : إذهبي عني فلن أشترى حياتى بالذلة مرتين !
أهرب حتى أجعلك فداءا وأتستر من ورائك لكى تلاقي غضب زوجك وحنقه على ؟!
إذهبي قبل أن أصيح في الحي منذرا بمكانك !!
🔹خرجت المرأة يائسة حزينة مسرعة إلى خبائها .
------------------------
🔹لم يسمح عوف بن مالك لأحد أن يذهب لخيمة المهلهل إلا بعد عدة أيام فدخل عليه ليراه فوجده قد هلك !!
فوقف خاشعا حزينا وهو ينظر ألى ذلك الأسد صريعا ! متأملا ذلك الجسد الذي ينزع عنه دروعه لأول مرة منذ مقتل كليب وكلما نزعو قطعة صحبتها رقعة من جسده !!
لكنه عندما نظر إلى يديه ورجليه لم يجد فيهما قيدا ولا وثاقا ؛ فصاح في العبدين : من نزع القيد والوثاق ؟ لقد أردت أن أدفنه في قيوده !!
ورفع السيف يريد قتلهما بينما وقفا حائرين لا يدريان ماذا يجيبانه ؛ فدخلت إمرأته عند ذلك مسرعة صائحة لا تفعل لا تفعل !!
أنا من فككت قيوده !
فنظر إليها الرجل متعجبا وقال في غضب : خلى سبيلى ! مالك والعبدين ؟!
فقالت مندفعة تحاول منعه أنا من فككتها ، أليس ابن عمتى ؟ !
رأيته يموت فلم يطاوعنى قلبي أن أرى بطل تغلب يتلوى يصارع الموت جوعا وعطشا !! ثم أجهشت بالبكاء !! ولكنه أبي أن يهرب وآثر الموت حتى لا تؤذينى !!
فسكن غضب عوف قليلا وقال فى دهشة : رفض أن يهرب ؟ !
قالت : نعم لقد أبي وقال لا أشتري الحياة بالذلة مرتين !
فوقف عوف صامتا ونظر إلي المهلهل نظرة طويلة يتأمل جسمه الضعيف النحيل ، ودرعه التى علاها الصدأ !! ثم قال في حزن :
أبي المهلهل إلا أن يموت كريما !!
مات المهلهل !
مات سيد ربيعة !!
🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸
نشكر محمد فريد أبو حديد ذلك الأديب الرائع ؛ كانت روايته (المهلهل سيد ربيعة) هى أفضل ما كتب عن المهلهل !
و قد لخصنا منها 4 من فقراتنا طعمناها بما رأيناه مناسبا .
وهى رائعة حقا وإن خالف بعض أشهر الروايات أحيانا إلا أن غيره خالفوا معظمها فجعلوها لا تكاد تصدق أو تقرأ !!
----------------
● لقد خالف مثلا أشهر الروايات في مقتل جساس واتبع رواية وسطا في القوة ...
فأغلب الروايات تقول إن جساس لما اشتد عليه الطلب نصحه أبوه أن يهرب لدى أقارب له فى الشام فعلم المهلهل وطارده حتى لحق به فقتله بينما اتبع هو الرواية التى تقول إن الهجرس ابن أخته هو من قتله .. و كلتى الروايتين أوردهما ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) لكنه لم يرجح الأخيرة .
بينما تقول أشهر الروايات أن جساس قتل أثناء المعارك الأولى عندما التقى بفارس تغلب أبي نويرة التغلبي فنازله فكلاهما ضرب الآخر ضربة أطاحته ثم نقل جساس إلى أخواله لتضميد جراحه فلم يلبث طويلا حتى مات متأثرا بجراحه ..
🚫 لكننا لا نؤيد هذه الرواية و ندرك أن الهدف منها رفع قيمة جساس كثائر ضد الظلم على حساب الحقيقة وعلى حساب التاريخ الذي يجب أن يكون فى معزل من الأهواء و المصالح ..!!!
👌و لنا على ذلك أدلة و شواهد :
- الأول أن هذه الرواية لم تشر إلى أن أخوال جساس الذين نقل إليهم جريحا إنما هم ديارهم في الشام !!! و لم تكن ثمة معارك بين بكر وتغلب لتدور هنالك !!! وأنه من غير المعقول أن يحمل جريحا مسيرة شهر من نجد إلى حاضرة الشام !!
- والثانى أن ابن الأثير أورد أن أبا نويرة هو قاتل جساس لكنه لم يقتله في معارك المهلهل بل إن جساس لما هرب إلى أخواله بالشام أرسل المهلهل سرية فيها أبو نويرة تتبعته حتى عثروا عليه فنازلوه فقتله أبو نويرة !!!
- والثالث أن أغلب المؤرخين يذكرون دائما أن حرب البسوس آخر من قتل فيها هو جانيها جساس ..
- و الرابع كما ظهر في كلام مرة أبيه لما طالبه وفد تغلب بتسليمهم جساس للقصاص أنه فر لما خاف( إنه غلام طعن طعنة على عجل ، وركب فرسه ، فلا أدري أي البلاد احتوت عليه )
👌 لذلك نرى أن محمد فريد قد اتخذ لجساس مكانة وسطا لاترفعه إلى البطولة و لكنها لا تهبط به الى الحضيض 👍
فلم يقل أنه خاف فهرب و لم يقل أنه قتل فى معركة مع المهلهل بل قال قتله إبن أخته الجرو بن كليب ؛ و بذكاء شديد من محمد فريد وافق أظهر الأقوال بأن جساس آخر من قتل في البسوس فجعل مقتله قبيل يوم تحلاق اللمم آخر المعارك !!
● كذلك اختلفت الروايات في نهاية المهلهل منها ما يقول أنه هلك وحده ؛ ومنها ما يقول أن عبديه إتفقا معا على قتله في الصحراء بعد أن أرهقهما معه في غزواته !
لكن محمد فريد إختار تلك الرواية الفخمة في مقتل المهلهل التى تظهره بطلا كبيرا وهو جدير بها ؛ 👍
و يقول جامع ديوان المهلهل الأستاذ طلال حرب :
{ و عند التمعن في الروايات المختلفة ( التى تحدثت عن كيفية نهاية المهلهل) نراها لا تخلو من النفس الروائى الهادف إلى التسلية 😭 .....
أما كيف مات مهلهل (فليس بوسعنا) الوقوف على الحقيقة !
إلا أن مايمكن تبنيه هو أنه لم يقتل في معركة و يبدو أنه مات في بنى يشكر ( في أسر عمرو أو عوف بن مالك سواء كان قتله مدبرا أو كان غير مدبر) }....
و يضيف شارح الديوان قائلا :
{ و ينبغي الإشارة إلى أن المهلهل لم يتوصل إلى قتل جساس قاتل كليب ! ....
وقد يكون جساس قد فر من أرض المعركة (*يقصد كل المعارك) من ديار بكر و رحل إلى الشام ؛ و قد يكون تحاشى مقاتلة المهلهل ؛ في حين أن همام شقيقه قتله غيلة غلام اسمه ناشرة.. ( * ذكر ذلك غير واحد و ذكره ابن الأثير أيضا)
فمهلهل لم يتوصل إلى القاتل ولا إلى همام شقيقه في مواجهة (لذلك) لم يكن يستطيع إيقاف الحرب للمحافظة على هيبة تغلب و صيتها بين القبائل ....
ربما لذلك طالت الحرب ؛ وربما لذلك قتل المهلهل الفتى بجيرا بن الحارث بن عباد و هو أحد ألمع أشراف بكر !!...
إنها الأعراف و التقاليد و المعتقدات الجاهلية التى خرقها جساس في البداية ؛ و اكتوى المهلهل ( وقبيلته تغلب) بنار ذلك الخرق ..... (فخاضوا....) حربا ضروسا طالت و استطالت لأن القاتل لم يقتل و الجريمة لم تغسل بعد بما تستحق من الدماء }... إنتهى (ص19-17 ديوان مهلهل بن ربيعة).
----------
ماعدا ذلك من مخالفات لأشهر الروايات فأمره يسير جاريناه في بعضها لأنه مقبول وصححنا ما اعتقدنا في أنه شاذ...
👌 وقد نشرنا هنا بالتعليقات صورا لما يخص تلك الإختلافات البسيطة ما ورد في كتاب : "أيام العرب في الجاهلية" للمؤلفين : محمد أحمد جاد المولى بك المؤرخ ؛ ومحمد أبو الفضل ابراهيم .. و فيه القول الفصل في هذه الإختلافات أو الأقرب للصحيح .
-------------------------------------------------------------------
🔸التعليق على أحداث و شخصيات القصة
رأينا ما كان من أحداث مروعة وأفعال شنيعة في تلك القصة ؛
رأينا أشخاصا كالأساطير منهم من شطح فى التكبر والإستبداد ومنهم من كان آية في الكرم والوفاء كالحارث بن عباد ومنهم من كان فارسا جلدا لا يبارى و منهم أصبح أسطورة لا تزلزلها حوادث الأيام و لا مر الزمان .
🔹أما كليب فلم يدرك أن ما نصره على الملك التبع هو استبداد ذلك التبع ؛ فلما استبد هو أيضا كانت تلك نهايته !
إن الشعوب هي التى ترفع الحاكم ليس هو الذي يرفعها وهي التى تسقطه إذا لم يعدل فيها !
ان الحاكم المستبد لا يثور الناس عليه حال قوته ، فيعتقد أن شعبه رضي به ؛ ولا يدرك ذلك إلا إذا ألمت به ملمة فلن يكونوا معه ، فقد قضوا زمنا صامتين ينتظرون لحظة ضعف له فينقضوا عليه كالأسود .
🔹أما جساس فقد كان مثالا للإباء ورفض الذل ؛ لكن كان أولى به أن يضحي بنفسه فيسلم نفسه للقصاص فيحقن سائر الدماء ، أو على الأقل أن يكون في طليعة المقاتلين من قومه في كل المعارك ؛ فهكذا يكون ما فعله بطولة ..
لكنه لم يفعل لا هذه ولا تلك بل فر من المعارك و تحاشى المواجهة ؛ تماما مثلما تحاشى مواجهة كليب بداية لما لم يدعه إلى النزال كما يفعل الفرسان ؛ و لم يتح له فرصة ليتناول سلاحه 😡
وأمام حبه لنفسه وتعلقه بالحياة ؛ قتل الآلاف من الأبرياء !! فلا بطولة له ولا كرامة ثم إذن ! إنتهى
🔹وأما سعاد البسوس فلقد بدا واضحا أنها كانت مأجورة لتوقع الفتنة وتسقط أول ملك من العرب العدنانيين ؛ ولاحظنا كم كان كليب كارها لها ، فلو أن ناقة أخرى غير ناقتها أو عشر نوق لما شغل ذلك بال كليب الذي اشتهر بالكرم ؛
ولا نستبعد ما ذهب إليه بعض الرواة من أن ملوك اليمن والحبشة تعاون معهم يهود الحجاز كانوا وراء التحريض على قتل كليب !
🔹و أما المهلهل فلم يكن متوقعا منه غير ما فعل !
هكذا المتحولون المفيقون على صدمات يذهبون إلى أبعد المدي !
ويبدو أنه كان قارئا للمستقبل ! فلو أنه رضي بالصلح فى وقت انتصاراته ، وأقام ذلك الملك الذي خلفه له كليب ، لما تركوه أيضا ؛ ولرأينا بعد قليل مشهد اغتياله !
لكنه قرر مصير نفسه منذ أول يوم ! فوهب نفسه للثأر و للفناء ولبس درعه لم يخلعها ؛ ليس طمعا فى ملك ، ولكن لإقتناعه أن هذا مصيره لا يطمع فى أفضل منه ! فكأنه لم يكن ينتقم لكليب فحسب ، بل أيضا لنفسه ، ولأي ملك كان سيقوم مكانه ، فلم يكن ليستمر قليلا حتى يسقطوه !
🔹و الدليل على أن سبب الحرب الكرامة ورفض السيطرة هي أن هؤلاء العرب العدنانيون لم يقم لهم ملك منهم لا قبلها ولا بعدها !
فما حملهم على حرب ملوك اليمن الذين سيطروا عليهم مرة تلو مرة ؛ وقد قتلوا أغلبهم منهم الملك حجر بن الحارث بن كنده والد إمرئ القيس الشاعر الكبير ؛ نقول أن هؤلاء العرب لم يكونوا ليقبلوا أبدا أن يتملك عليهم ملك ظنا أن فى ذلك مذلة و عار لهم !
وهاهو عمرو بن كلثوم يفخر بعصيانهم الملوك فيقول في معلقته :
و أيام لنا غر طوال
عصينا الملك فيها أن ندينا
إذا ما المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً
أَبَيْنا أنَّ نقِرَّ الخَسْفَ فِيْنا
ويقول عبيد بن الأبرص :
أَبَوا دِيْنَ المُلُوك ِ فَهُمْ لَقَاحٌ
إذا نُدِبُوا إلى حَرْبٍ أَجابُوا
و يقول بشامة بن الغدير :
مِنْ عَهدِ عَادٍ كانَ مَعْرُوفاً لَنَا
أَسْرُ المُلُوكِ وقَتْلُها وقتالها
ولقد أجمل جابر بن حُنَيّ التغلبي ما ذكر آنفا بقوله يهجو الملك عمرو بن هند :
نُعاطِي المُلُوكَ السِّلْمَ ما قَصَدُو بنا
و ليس عَلَيْنا قَتْلُهُم ْ بِمُحَرَّمِ
وقال حاتم الطائي :
وأَقْسَمْتُ لا أُعْطِي مَلِيكاً ظُلاّمةً
وَ حَوْلي عَدِيٌّ: كَهْلُها وغَرِيرُها
👌هكذا فإن المهلهل قد عرف مصيره إن أصبح ملكا ؛ فكيف به إذا فرط فى دم أخيه الذي كان ملكا ؟!
ربما احتقرنا جميعا ذلك المهلهل ووصفناه بالجنون والعربدة ! لكنه كان عاقلا من وجهة نظرى وبطلا كبيرامن وجهة نظر الكثيرين ....
تعتبر شخصية المهلهل ،شخصيه فريده من نوعها ذكر ذلك العديد من النقاد والمؤرخين،والجدير بالذكر احد المؤرخين الغربيين يصف المهلهل قائلا :
👌لانعلم قدر الحب الذي كان في قلب المهلهل حتى يذكر اخاه لمدة اربعين عاما ،وهذا الحب الكبير هو الذي جعله يقاتل طول تلك المدة .
--------------------------------------------------------------------
هكذا كان المهلهل و هكذا كان سيد ربيعة ؛
وهكذا كانت العرب ... فاذكروا أمجاد أمتكم
#البسوسوالمهلهلجواهر
إرسال تعليق