سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه
(14)
" نحن أُمّة أراد الله لها العِزّة "
--------------------------------------------------------------------
تابع : المؤسسة المالية للدولة في عهد عمر رضي الله عنه
--------------------------------------------------------------------
كانت الأراضي التى يغنمها المسلمون في البلاد التى يفتحونها تعامل معاملة الغنائم فيقسم أربعة أخماسها بين الجند وتقطع لهم ...
لكن عمر رضي الله عنه قد تفقه في آيات القرآن طويلا واستنبط منها حكما شرعيا بإبقائها في حوزة أهلها على أن يفرض عليها خراج يتناسب مع نتاجها يؤدى لبيت مال المسلمين وجعل خراجها يوزع على كل المسلمين عامة حاضرهم و غائبهم و من يأتي من بعدهم كما وضحنا في الفقرة السابقة .
وقال عمر : فلئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه - *يعني دون أن يتعرض لمذلة السؤال- .... (*1)،
---------------------------------
وفي رواية أخرى جاء فيها
{ قال عمر :
"فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت، ما هذا برأي "،...
فقال له : عبد الرحمن ابن عوف فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم،...
فقال عمر : "ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك، والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن يكون كلا على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور ؟ وما يكون للذرية والأرامل لهذا البلد وبغيره من أراضي الشام والعراق؟" ...
فأكثروا على عمر وقالوا : تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم وأبناء أبنائهم ولم يحضروا، ؟!
فكان عمر رضي الله عنه، لا يزيد على أن يقول : هذا رأي،..
قالوا: فاستشر، فأرسل إلى عشرة من الأنصار من كبراء الأوس والخزرج وأشرافهم فخطبهم، وكان مما قال لهم :
" إني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي ثم قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم،...
ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها واضعاً عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين، المقاتلة والذرية، ولمن يأتي من بعدهم،...
أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها أرأيتم هذه المدن العظام لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم فمن أين يُعطى هؤلاء إذا قسمت الأرض والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعم ما قلت ورأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يَتَقَوّوْن به رجع أهل الكفر إلى مدنهم " } . ....(*2)،
وقد قال عمر فيما قاله :
" لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم، ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء، وقد جعل الله لهم فيها الحق بقوله تعالى: ○ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم ْ○
فاستوعبت الآية الناس إلى يوم القيامة، وبعد ذلك استقر رأي عمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم على عدم قسمة الأرض ....(*3).
وفي حواره مع الصحابة يظهر أسلوب الفاروق في الجدل، وكيف جمع فيه قوة الدليل، وروعة الصورة، واستمالة الخصم، في مقالته التي قال للأنصار، عند المناقشة في أمر أرض السواد، ....
ولو أن رئيساً ناشئاً في السياسة، متمرساً بأساليب الخطب البرلمانية أراد أن يخطب النواب (لينال موافقتهم) على مشروع من المشروعات لم يجيء بأرقّ من هذا المدخل، أو أعجب من هذا الأسلوب !..
وامتاز عمر فوق ذلك بأنه كان صادقاً فيما يقول، ولم يكن فيه سياسياً مخادعاً وأنه جاء به في نمط من البيان يسمو على الأشباه والأمثال ..(*4).
------------------------------------------------------------------
هل كان الفاروق مخالفاً للنبي ﷺ في حكم أرض الخراج
من قال: إن الفاروق خالف الرسول ﷺ بفعله في عدم تقسيم أرض الخراج، لأن النبي ﷺ قسم خيبر، وقال: إن الإمام إذا حبس الأرض المفتوحة عنوة نقض حكمه لأجل مخالفة السنة،
فهذا القول خطأ وجرأة على الخلفاء الراشدين – إذا فعلوا هذا الفعل – فإن فعل النبي ﷺ في خيبر إنما يدل على جواز ما فعله ولا يدل على وجوبه
وقد ثبت أنه فتح مكة عنوة كما استفاضت به الأحاديث الصحيحة، بل تواتر ذلك عند أهل المغازي والسير؟
وإن من تدبر الآثار المنقولة علم بالاضطرار أن مكة فتحت عنوة، ومع هذا فالنبي ﷺ لم يقسم أرضها كما لم يسترق رجالها، ففتح خيبر عنوة وقسمها، وفتح مكة عنوة ولم يقسمها، فعلم جواز الأمرين ..(*5)،
وبذلك لم يكن الفاروق مخالفاً للهدي النبوي في عدم تقسيمه للأراضي المفتوحة، وقد كان سنده فيما فعل أموراً منها:
☆1- آية الفيء في سورة الحشر.
☆2- عمل النبي ﷺ حينما فتح مكة عنوة فتركها لأهلها ولم يضع عليها خراجاً.
☆3- قرار مجلس الشورى الذي عقده عمر لهذه المسألة بعد الحوار والمجادلة وقد أصبح سنة متبعة في أرض يظهر عليها المسلمون ويقرون أهلها عليها
وبهذا يظهر أن عمر حينما ميز بين الغنائم المنقولة وبين الأراضي كان متمسكاً بدلائل النصوص، وجمع بينها وأنزل كلا منها منزلته التي يرشد إليها النظر الجامع السديد يضاف إلى ذلك أن عمر كان يقصد أن تبقى لأهل البلاد ثرواتهم وأن يعصم الجند الإسلامي من فتن النزاع على الأرض والعقار، ومن فتن الدعة والانشغال بالثراء والحطام....(*6).
إن الفاروق رضي الله عنه كان يلجأ إلى القرآن الكريم يلتمس منه الحلول ويطوف بين مختلف آياته، ويتعمق في فهم منطوقها ومفهومها، ويجمع بينها ويخصص بعضها ببعض حتى يصل إلى نتائج تحقق المصالح المرجوة منها ..
وهي عملية مركبة ومعقدة لا يحسن الخوض فيها إلا من تمرس على الاجتهاد وأعطي فهماً سديداً وجرأة على الإقدام حيث يكون الإقدام مطلوبا و حسنا ..
حتى خيل للبعض أن عمر كان يضرب بالنصوص عرض الحائط في بعض الأحيان، وحاشا أن يفعل عمر ذلك لكنه كان مجتهداً ممتازاً اكتسب حاسة تشريعية لا تضاهى حتى كان يرى الرأي فينزل القرآن على وفقه (*7).
------------------------------------------------------------------
كيف تمّ تنفيذ مشروع الخراج في عهد الفاروق؟
إنتدب شخصيتين كبيرتين هما: عثمان بن حُنيف، وحذيفة بن اليمان وذلك لمسح أرض سواد العراق، وأمرهما بأن يلاحظا ثروة الأفراد، وخصوبة الأرض وجدبها، ونوع النباتات والشجر، والرفق بالرعية، فلا تحمل الأرض ما يتحمله المكلفون، بل يترك لهم ما يجبرون به النوائب والحوائج .
ولكي ينطلق قرار عمر رضي الله عنه على أساس عادل، رغب أن يعرف الحالة التي كان عليها أهل العراق قبل الفتح، وطلب من الصحابيين عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان أن يرسلا إليه وفداً من كبار رجال السواد،
فبعثا إليه وفداً من دهاقنة (أعيان) السواد، فسألهم عمر رضي الله عنه، كم كنتم تؤدون إلى الأعاجم في أرضهم؟ قالوا: سبعة وعشرين درهماً، فقال عمر رضي الله عنه لا أرضى بهذا منكم . (*8)،
وهذا يدل على أن الفتح الإسلامي كان عدلاً على الناس الذين فتحت بلادهم، وكان عمر يرى أن فرض خراج على مساحة الأرض أصلح لأهل الخراج، وأحسن رداً، وزيادة في الفيء من غير أن يحملهم مالا يطيقون ...
وكتبا إلى عمر بن الخطاب بذلك فأمضاه وقد حرص عمر (رضي الله عنه) على العناية بأهل تلك الأرض والبلاد، وما يوفر العدل ويحققه خوفاً أن يكون عثمان وحذيفة رضي الله عنهما حملا الناس والأرض ما لا يطيقون أداءه من خراج...
فسألهما: كيف وضعتما على الأرض لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون؟ فقال حذيفة: لقد تركت فضلاً، وقال عثمان: لقد تركت الضعف، ولو شئت لأخذته فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك: أما والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرون إلى أمير بعدي .....(*9).
وهذه الطريقة التي نفذت في سواد العراق هي ذاتها التي نفذت في الأراضي المصرية، لكن الذي تولاها هو عمرو بن العاص وكانت وحدة المساحة التي ربط على أساسها الخراج الفدان(*10)، وكذلك فعل عمر (رضي الله عنه) بأرض الشام كما فعل بأرض السواد،
-------------------------------------------------------------------
المصالح التى ترتبت على قرار الخراج
● سد الطريق على الخلاف والقتال بين المسلمين،
●ضمان توافر مصادر ثابتة لمعايش البلاد والعباد،
●توفير الحاجات المادية اللازمة للأجيال اللاحقة من المسلمين، وثانيهما المصالح الخارجية والتي يتمثل أهمها في
●توفير ما يسد ثغور المسلمين، ويسدّ حاجتها من الرجال والمؤن،
● القدرة على تجهيز الجيوش، بما يستلزمه ذلك من كفالة الرواتب وإدرار العطاء وتمويل الإنفاق على العتاد والسلاح وترك بعض الأطراف لتتولى مهام الدفاع عن حدود الدولة وأراضيها اعتماداً على ما لديها من خراج . (*11)
---------------
● ثبت أن الفيصل في إبداء الآراء في القرارات السياسية عامة والتي تمس مصالح المسلمين بصفة مباشرة خاصة، هو أن تجيء هذه الآراء مستندة إلى النصوص المنزلة، أو ما ينبغي أن يتفرع عنها من مصادر أخرى لا تخرج عن أحكامها في محتواها ومبرراتها... (*12)
● التأكيد على أن أهل الشورى لهم مواصفات خاصة تميزهم، فالذين يستشارون هم أهل الفقه والفهم والورع والدراية، الواعون لدورهم، إنهم بعبارة أدق الذين لا إمعية في آرائهم، ومن دأبهم توطين أنفسهم على قول الحق وفعله، غير خائفين في ذلك لومة لائم من حاكم أو غيره....
والحاكم مجرد فرد في هيئة الشورى، وأعلن الثقة في مجلس شورى الأمة، خالفته، أو وافقته والرد إلى كتاب الله، فقد قال رضي الله عنه: إني واحد منكم، كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ومعكم من الله كتابٌ ينطق بالحق (*13).
------------
● قطع الطريق على عودة جيوش الروم والفرس بعد طردهم
فقد أدت سياسة عمر رضي الله عنه في تمليك الأرض لفلاحي الأمصار المفتوحة عنوة إلى شعورهم بالرضا التام وهذا مما جعلهم يبغضون حكامهم من الفرس والروم ولا يقدمون لهم أية مساعدات بل كانوا على العكس من ذلك يقدمون المساعدات للمسلمين ضدهم، حتى إن رستم القائد الفارسي دعا أهل الحيرة فقال : يا أعداء الله فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا وكنتم عيوناً لهم علينا وقويتموهم بالأموال ...(*14)
------------
● القضاء نهائياً على نظام الإقطاع
فقد ألغى عمر رضي الله عنه كل الأوضاع الإقطاعية الظالمة التي احتكرت كل الأرض لصالحها واستعبدت الفلاحين لزراعتها مجاناً،...
بينما ترك عمر رضي الله عنه أرض السواد في أيدي فلاحيها يزرعونها مقابل خراج عادل يطيقونه يدفعونه كل عام، وقد اغتبط الفلاحون بقرار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتمليكهم الأرض الزراعية يزرعونها مقابل دفع الخراج الذي يستطيعونه ....
وهذا جعلهم يشعرون لأول مرة في حياتهم أنهم أصحاب الأرض الزراعية لا ملكاً للإقطاعيين من الطبقة الحاكمة، وكان الفلاحون مجرد أجراء يزرعونها بدون مقابل، وكان تعبهم وكدهم يذهب إلى جيوب الطبقة الإقطاعية طبقة ملاك الأرض ولا يتركون لهم إلا الفتات . ... (*15).
------------
● مسارعة أهل الأمصار المفتوحة إلى الدخول في الإسلام :
فقد ترتب على ما تقدم من تمليك الأرض للفلاحين أن سارعوا إلى الدخول في الإسلام، الذي انتشر بينهم بسرعة مدهشة لم يسبق لها مثيل، فقد لمسوا العدل وتبين لهم الحق، وأحسوا بكرامتهم الإنسانية من معاملة المسلمين لهم(*16).
-------------
● تدبير الأموال لحماية الثغور:
فقد امتدت الدولة الإسلامية صوب جهاتها الأربع وانتقلت أسماء الثغور إلى ما وراء حدود الدولة في عصورها الأولى ومن أهم هذه الثغور، ما كان يعرف بالثغور الفراتية والتي كانت تمتد على طول خط استراتيجي يفصل ما بين الدولة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية وغيرها من الثغور،
وقد اتخذ عمر في كل مصر على قدره خيولاً، وقد وصلت قوات الفرسان المرابطين في الأمصار إلى أكثر من ثلاثين ألف فارس، ..وهذا بخلاف قوات المشاة وأي قوات أخرى كالجمالة وخلافه...
وهذه خصصها عمر كجيش منظم لحماية ثغور المسلمين وكفل أرزاقهم وصرفهم عن الاشتغال بأي شيء إلا بالجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، فكان الخراج من الأسباب التي ساقها المولى عز وجل لتجهيز هذه القوات وكفالة أرزاق أجنادها ...... (*17).
رضي الله عن الفاروق عمر وأرضاه
وصلى الله على محمد و آله و صحبه وسلم
--------------------------------------------------------------------
(*1) الخراج لأبي يوسف ص67، اقتصاديات الحرب ص217.
(*2) المصدر السابق نفسه
(*3) سياسة المال في الإسلام في عهد عمر ص105.
(*4) أخبار عمر ص210.
(*5) مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/ 312، 313).
(*6) الاجتهاد في الفقه الإسلامي ص131.
(*7) المصدر نفسه ص131، 132.
(*8) الخراج لأبي يوسف ص40، 41.
(*9) الخراج لأبي يوسف ص38.
(*10) الخراج لأبي يوسف 39، 40 و سياسة المال في الإسلام ص108.
(*11) الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الإسلام، مصطفى منجود ص317، 318.
(*12) المصدر السابق نفسه
(*13) الدور السياسي للصفوة ص185.
(*14) الدعوة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين عمر ص131 .
(*15) الدعوة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب حسني غيطاس ص130.
(*16) نفس المصدر ص132 .
(*17) نفس المصدر ص135 .
☆ فصل الخطاب في سيرة بن الخطاب الصلابي ص212-201
--------------------------------------------------------------------
إرسال تعليق