تاريخ التتار الأول (15)
إمبراطورية جنكيز خان
-----------------------------------
بعد أن قضي هولاكو على طائفة الإسماعيلية سار لتحقيق هدفه الثاني وهو القضاء على الخلافة العباسية ؛
وفي رمضان سنة655هـ/1257م أرسل هولاكو رسولاً إلى الخليفة مصاغة في قالب من التهديد والوعيد ! ونصحه بهدم حصون بغداد وتسريح الجند و تسليم المدينة له !
وهدده أنه :
{ لو كنت مختفياً في السماء أو في الأرض… فسوف أنزلك من الفلك الدوار وسوف القيك من عليائك إلى أسفل كالأسد، ولن أدع حياً في مملكتك وسأجعل مدينتك واقليمك وأراضيك طعمة للنار، فإذا أردت أن تحفظ رأسك وأسرتك فاستمع لنصحي بمسمع العقل والذكاء}
ورفض المستعصم بشدة ورد على هولاكو برسالة كلها احتقار قال فيها: أيها الشاب الحدث… المتمني قصر العمر، ومن ظن نفسه محيطاً ومتغلباً على جميع العالم مغتراً متوهماً أن أمره قضاء مبرم..... إلخ
وصل رسل الخليفة العباسي إلى هولاكو، فلما اطلع على رسالة الخليفة، وعلم بما لحق رسله من أذى العامة في بغداد، غضب غضباً شديداً، وأعاد رسل المعتصم، وحملهم رسالة أخرى تتضمن إنذاراً نهائياً له، صيغ في لهجة شديدة عنيفة، إذ يقول:
{ لقد فتنك حب الجاه والمال، والعجب والغرور بالدولة الفانية، بحيث أنه لم يعد يؤثر فيك نصح الناصحين بالخير وإن في أذنيك وقراً، فلا تسمع نصح المشفقين ؛
ولقد انحرفت عن طريق آباك وأجدادك، وإذن فعليك أن تكون مستعداً للحرب والقتال فإني متوجه إلى بغداد بجيش كالنمل والجراد، ولو جرى سيل الفلك على شاكلة أخرى فتلك هي مشيئة الله العظيم }
وقبل أن يقدم هولاكو على غزو بغداد، استشار المنجمين، فيما يتعلق بأحكام النجوم وطوالع السعد والنحس،
فأما الفلكي حسام الدين الذي جاء برفقة هولاكو من قبل خان المغول الأعظم ((منكوقاآن)) فقد كان سنياً يعطف على الخليفة العباسي ويحرص على أن يمنع هولاكو من الاقدام على غزو بغداد،
فراح يؤكد له أن هذه الحملة تحدث خلالا في نظام الكون، فضلاً على أنها سوف تكون وبالاً على الخان نفسه، فكان مما قاله له:
{ الحقيقة أن كل ملكٍ تجاسر ـ حتى هذه اللحظة ـ على قصد الخلافة والزحف بالجيش على بغداد لم يبق له العرش ولا الحياة، وإذا أبى الملك أن يستمع إلى نصائحي، وتمسك بمشروعه فسينتج عنه ستة مصائب كبيرة هي:
ـ تموت الخيول كلها، ويمرض الجنود.
ـ لن تطلع الشمس.
ـ لن ينبت النبات في الأرض.
ـ لن ينزل المطر.
ـ تهب رياح شديدة، ويعاني العالم من الزلازل.
ـ يموت الخان الأعظم في هذا العام . ... }
وأما الأمراء فقد قالوا : إن الذهاب إلى بغداد هو عين المصلحة،
وبعد ذلك استدعى هولاكو خان ((نصير الدين الطوسي)) لاستشارته، ولما كان يكره الخليفة، ويعمل على إسقاطه، فقد نقض كل ما قاله حسام الدين، وطمأن هولاكو بأنه لا توجد موانع تحول دون إقدامه على الغزو،
ولم يقف الطوسي عند هذا الحد، بل كان يؤيد وجهة نظره بالحجج القوية التي تكذب نبوءة حسام الدين،
فذكر أن الكثيرين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ماتوا في الدفاع عن الدين، ومع ذلك لم تقع أية كارثة، وإذا قيل أن ذلك خاص ببني العباس، فإن الكثير من الناس قد خرجوا على هذه الأسرة وقتلوا منهم بعض الخلفاء، دون أن يحدث أي خلل،
وأخذ نصير الطوسي يتمثل بطاهر بن الحسين قائد المأمون الذي قتل محمد الأمين، وبالأمراء الذين قتلوا المتوكل والمنتصر والمعتز وغيرهم .
---------------------------------------------------------------------
حصار بغداد
وعلى إثر ذلك أصدر هولاكو أمره بتحرك جيوش المغول من أطراف بلاد الروم عن طريق إربل والموصل متجهة نحو بغداد لتحاصرها من الجهة الغربية، وتنتظر حتى تصل إليهم جيوش هولاكو من الناحية الشرقية،
أما كيتوبوقا أحسن قواد هولاكو فقد إتجه بالجناح الأيسر إلى العاصمة العباسية عن طريق لورستان، وخوزستان، كما أنفذ إليها بعض أمراء المغول عن طريق كروستان الحالية،
وفي أوائل المحرم سنة 625هـ/1257م نزل هولاكو من همذان إلى دجلة عن طريق كرمانشاه وحلوان، وكان معه في تلك الغزوة الأمير أرغون والخواجة نصير الدين الطوسي والوزير سيف الدين البينكجي ، وعلاء الدين عطاء الجويني،
وقد استطاع هولاكو أن يستميل إلى جانبه سكان الأماكن الجبلية المتاخمة للعراق بواسطة الأموال التي كان يبذلها لهم، كما استطاع أن يضم إليه كثير من جنود سليمان شاه .
وكان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل والأتابك أبو بكر في إقليم فارس ممن أمدوا هولاكو بالمال والرجال،
ولما انتهى حشد القوات المغولية وأقام هولاكو معسكره في ظاهر بغداد من الرق، حاول الجيش الذي أعده الخليفة بقيادة مجاهد الدين آيبك الدوايدار الصغير أن يحول دون استقرار المغول في أماكنهم، فكان نصيبه الهزيمة المنكرة، وقتل عدد كبير من جنوده لقوا حتفهم على يد المغول، فلم يسع مجاهد الدين إلا الحرب مع قليل من أتباعه
وفي يوم الثلاثاء 22 من المحرم 656هـ/1258م أحكم الحصار حول مدينة بغداد، واستمر حتى نهاية هذا الشهر، وفي خلال تلك الفترة كان المغول يطلقون يد التخريب في المدينة، ويفتحون الأبراج حتى استولوا بهجماتهم على القسم الشرقي من التحصينات .
--------------------------------------------------------------------
مفاوضات النهاية :
ولما رأى الخليفة حرج موقفه، أراد أن يهدئ المغول ويثنيهم عن عزمهم على إتمام الفتح وذلك بإرسال الرسل والهدايا، ولكن هولاكو لم يستجب لهذا النداء ،
ولجأ الخليفة إلى صديقه مؤيد الدين العلقمي الشيعي وسأله ماذا يفعل؟ واشار إليه الوزير أن يخرج لمقابلة هولاكو بنفسه لكي يجري معه مفاوضات، وذهب الرسل إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة،
فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة ولكن ليس وحده، بل عليه أن يأتي معه بكبار رجال دولته، ووزرائه وفقهاء المدينة، وعلماء الإسلام، وأمراء الناس والأعيان، حتى يحضروا جميعاً المفاوضات وبذلك تصبح المفاوضات ـ كما يزعم هولاكو ـ ملزمة للجميع،
وجمع الخليفة كبار قومه، وخرج بنفسه في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو خارج الأسوار الشرقية لبغداد، خرج وقد تحجرت الدموع في عينيه، وتجمد الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، وتلاحقت أنفاسه،
لقد خرج الخليفة ذليلاً مهيناً، وهو الذي كان يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، وكان أجداده الأقدمون يقودون الدنيا من تلك الدار التي خرج منها الخليفة الآن،
وكان الوفد كبيراً يضم سبعمائة من أكابر بغداد، وكان فيه بالطبع وزيره مؤيد الدين العلقمي، واقترب الوفد من خيمة هولاكو،
ولكن قبل الدخول على زعيم التتار اعترض الوفد فرقة من الحرس الملكي التتاري، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو بل قالوا: إن الخليفة سيدخل ومعه سبعة عشر رجل فقط، أما الباقون فسيخضعون ـ كما يقول الحرس ـ للتفتيش الدقيق،
ودخل الخليفة ومعه رجاله وحجب عنه بقية الوفد، ولكنه لم يخضعوا لتفتيش أو غيره، بل أخذوا جميعاً… للقتل!!
قتل الوفد بكامله إلا الخليفة والذين كانوا معه قتل كبراء القوم، ووزراء الخليفة، وأعيان البلد، وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية، ولم يقتل الخليفة لأن هولاكو كان يريد استخدامه في أشياء أخرى،
وبدأ هولاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله وعرف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان "لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمةً"
وصدرت الأوامر من هولاكو إلى الخليفة :
أ ـ على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بالقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة، وقد كان ذلك أمراً سهلاً، لأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون حمل السلاح، ولا يرغبون في ذلك أصلاً.
ب ـ يقيد الخليفة العباسي، ويساق إلى المدينة، يرسف في أغلاله، وذلك لكي يدل التتار على كنوز العباسيين، وعلى أماكن الذهب والفضة والتحف الثمينة وكل ما له قيمة نفيسة في قصور الخلافة وفي بيت المال .
جـ ـ يتم قتل ولدي الخليفة أمام عينيه، فقتل الولد الأكبر أحمد أبو العباس وكذلك قتل الولد الأوسط عبد الرحمن أبو الفضائل… ويتم أسر الثالث مبارك أبو المناقب، كما يتم أسر أخوات الخليفة فاطمة وخديجة ومريم.
د ـ أن يستدعي من بغداد بعض الرجال بعينهم وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السنة، وكان ابن العلقمي يكن لهم كراهية شديدة،
وبالفعل تم استدعاؤهم جميعاً فكان الرجل منهم يخرج من بيته ومعه أولاده ونساؤه فيذهب إلى مكان خارج بغداد عينه التتار بجوار المقابر، فيذبح العالم كما تذبح الشاة، وتؤخذ نساؤه وأولاده إما للسبي أو للقتل،
لقد كان الأمر مأساة بكل المقاييس وذبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محي الدين يوسف بن الشيخ بن الفرج بن الجوزي، وذبح أولاده الثلاثة عبد الله، عبد الرحمن، وعبد الكريم،
وذبح المجاهد مجاهد الدين آيبك وزميله سليمان شاه اللذان قادا الدعوة إلى الجهاد في بغداد،
وذبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه صدر الدين علي بن النيار،
ثم ذبح بعد هؤلاء خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن
وكل هذا والخليفة حي يشاهد ورأى أن هولاكو يتعامل تعاملاً ودياً مع ابن العلقمي الوزير الخائن وأدرك بوضوح العلاقة بينهما وانكشفت أمامه الحقائق بكاملها، وعلم النتائج المترتبة على توسيد الأمر لغير أهله، ولكن بعد فوات الأوان .
------------------------------------------------------------------'
استباحة بغداد
بعد أن ألقى أهل المدينة السلاح وبعد أن قتلت هذه الصفوة، وبعد إن إنساب جند هولاكو إلى شوارع بغداد ومحاورها المختلفة، أصدر هولاكو أمره الشنيع باستباحة بغداد ، وأتوا على كل ما فيها،
فخربوا المساجد بقصد الحصول على قبابها المذهبة وهدموا القصور بعد أن سلبوا ما بها من تحف نادرة وأباحوا القتل والنهب وسفك الدماء،
وكان استهتار المغول بالنفوس بالغاً حد الفظاعة، فيروى أن أحدهم دخل زقاقاً، وقتل أربعين طفلاً شفقة منه ورحمة حين علم أن أمهاتهم قتلن من قبل ،
ويقدر المعتدلون من المؤرخين عدد القتلى بنحو ثمانمائة ألف نسمة ،
ولم يقتصر التتار على قتل الرجال الأقوياء فقط، وإنما كانوا يقتلون الكهول والشيوخ، وكانوا يقتلون النساء إلا من استحسنوه منهن، فإنهن كانوا يأخذونها سبياً ،
ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة، وقد استمرت هذه الغارة أربعين يوماً، اندلعت فيها ألسنة النيران في كل جانب، فالتهمت كل ما صادفها، وأتت على الأخضر واليابس،
وخربت أكثر الأبنية وجامع الخليفة، ومشهد الإمام موسى الكاظم، وقبور الخلفاء في الرصافة ،
وعندما دخل هولاكو مدينة بغداد، قصد قصر الخلافة، ، وجلس في الميمنة، واحتفل مع الأمراء بذلك اليوم، وأمر بإحضار الخليفة، وقال له: أنت المضيف ونحن الضيوف فيجب عليك أن تقوم بواجب الضيافة
فصدق الخليفة قوله، وكان يرتعد فرقاً وخوفاً واستولت عليه الدهشة واعتراه الذهول، لدرجة أنه لم يعد يعرف أين وضع مفاتيح خزائنه، فأمر بكسر الأقفال، وإخراج ألفين من الثياب، وعشرة آلاف دينار، ونفائس ومرصعات، وجواهر عديدة، قدمها هدية لهولاكو خان
لكن هولاكو لم يعر تلك الأشياء التفاتاً، ووزعها على أتباعه،
ثم قال للخليفة: هذه الأموال التي تملكها على سطح الأرض أمرها واضح، وهذه تعد غنيمة، فتكون من نصيب جنودنا، والآن نريد أن تكشف لنا عن الأموال والدفائن، فما هي وأين توجد؟
عندئذ اعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب وسط القصر، فلما حفروا ذلك المكان وجودوه مملوءاً بالذهب الإبريز، وكانت كل قطعة منه تزن مائة مثقال،
ثم أمر هولاكو بأن يحصوا حرم الخليفة وحاشيته، فوجدوا سبعمائة من النساء والسرايا وألفاً من الخدم ،
وعندما وقف الخليفة على تعداد نسائه قال في تضرع: أمنحني تلك النسوة اللائي لم يكن يطلع عليهن ضوء الشمس ولا نور القمر، فأمر هولاكو بأن يختار من بينهن مائة من النسوة ممن هن من اقاربه والمحببات إليه، ثم رجع إلى معسكره ليلاً ؛
وفي الصباح كلف قائده ((سونجاق)) بأن يذهب إلى المدينة ليضبط أموال الخليفة ويخرجها، فجمع هذا كل ما كان الخلفاء العباسيون قد ادخروه خلال خمسة قرون .
وأخيراً بعد أن سفك هولاكو من الدماء ما سفك، وبعد أن خرب ما خرب، أصدر أمره بالكف عن القتل، وبأن ينصرف كل إلى عمله،
يقول ابن كثير :
{ ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، ولقد أنكر بعضهم بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى }
--------------------------------------------------------------------
أسود أيام في التاريخ مرت على أمتنا
ما يحدث اليوم ليس شيئا بجانبها
تابعوا يا أولى الأبصار !
إرسال تعليق