نهاية الأندلس و تاريخ المورسكيين (8)
----------------------------------------------------------
🔹️ خلاصة ما سبق :
وصف ابن الخطيب شعب غرناطة بوسامة الوجوه، و اعتدال القدود، وسواد الشعر ، و نضرة اللون ، وأناقة الملبس ، وحسن الطاعة والإباء ، يتحدثون بعربية فصيحة تغلب عليها الإمالة . ويصف نساءهم بالجمال والرشاقة والسحر ، ونبل الخلال ، ولكنه ينعى عليهن المبالغة في التفنن في الزينة والتبهرج في عصره .
أما الجند فكانت فيهم كثرة ظاهرة من البربر ، ولا سيما من قبائل زنانة ومغراوة و بنی مرین . ويرجع ذلك إلى أن طوائف البربر التي تخلفت منذ عهد المرابطين و الموحدين بالأندلس، كان أغلبها من الجند؛ وقد بقيت على عهدها تؤثر الجندية على الزراعة والمهن والفنون المدنية .
وهكذا كان الشعب الأندلسي حين آذنت شمسه بالمغيب ، كما كان يوم مجده ، يتكون من هذا المزيج العربي الإفريقي الإسباني الذي أطلق عليه الغربيون عبارة « عرب الأندلس ، أو مسلمي الأندلس » .
وكانت الأمة الأندلسية تتمتع حتى في عصورها الأخيرة بحضارة زاهرة ،.كانت مثار التقدير والإعجاب في سائر الأمم الأوربية ، وكان يحج إلى معاهدها مختلف أنحاء أوربا
وكان الشعب الغرناطي من أهل السنة يدين بمذهب الإمام مالك ، وهو المذهب الذي غلب على الأمة الأندلسية منذ أواخر القرن الثاني الهجري، منذ عصر هشام بن عبد الرحمن الداخل .
--------------------------------------------------------------------
🔸 ️طبيعة الصراع بين الأندلس وأسبانيا النصرانية
{ كانت سياسة أسبانيا النصرانية إزاء الأمة الأندلسية المغلوبة ، منذ إكراهها على التنصير في عصر فرناندو حتى مأساة النفي النهائى في عصر فيليب الثالث ، تقوم على بواعث دينية وصليبية محضة ، يصوغها ويحرض عليها أحبار الكنيسة ، ويدعمها ديوان التحقيق بقضائه الكنسي المروع ووسائله الدموية ..
وعلى الجملة فقد كانت جهود أسبانيا النصرانية في القضاء على الأمة الأندلسية ، تمثل منذ بدايتها إلى نهايتها مأساة من أروع وأشنع مآسي التعصب الديني والقومي التي عرفها التاريخ . } 😡 محمد عبد الله عنان
.........
يمثل قیام مملكة غرناطة فوق أنقاض الدولة الإسلامية الكبرى طورا جديدا ، و مرحلة جديدة في تاريخ الصراع الخالد بين الأندلس وأسبانيا النصرانية ، أو ما يمكن تسميته المرحلة المتأخرة من تاريخ الأندلس .
وقد بدأت اسبانيا النصرانية حرب الاسترداد القومية La Reconquista منذ منتصف القرن الخامس الهجري، أعني حينها انهارت الدولة الإسلامية القوية ، وانتثرت إلى عدة دويلات صغيرة متنافسة هي دول الطوائف . وبلغت الأندلس
أيام الطوائف من التفرق والضعف مبلغا عظيما ، حتى لاح لأسبانيا النصرانية أن عهد الدولة الإسلامية أوشك على الزوال ، وأن الفرصة قد منحت لتضرب ضربتها القاضية .
وكانت مملكة قشتالة تتزعم اسبانيا النصرانية ، وتقودها في ميدان.الصراع مع المسلمين ، وكان ملكها أيام الطوائف ألفونسو السادس ، يعمل بذكاء لاستغلال منافسة الدويلات الإسلامية وتفرق کلمتها ، ويغلب أميرا على أمير ، حتي انتهى بالاستيلاء على مدينة طليطلة من يد صاحبها يحيى بن ذي النون ، وذلك في صفر سنة (478 ه /مايو 1080م) .
وكانت طليطلة أول قاعدة إسلامية عظيمة تسقط في يد اسبانيا النصرانية . ويعتبر بعض الباحثين سقوطها ختام مرحلة التفوق السياسي الذي احتفظت به الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة منذ الفتح ، وبدء مرحلة التفوق السياسي لإسبانيا النصرانية .
وعلى أي حال فقد كان سقوط طليطلة نذير خطر للأمة الأندلسية ، يذكرها بقوة العدو المتربص بها ، وحذرها عاقبة التنابذ والتفرق ، فاجتمعت كلمة أمراء الطوائف يومئذ على الاستعانة بإخوانهم فيما وراء البحر ، في عدوة المغرب .
وكان المرابطون يومئذ قد بسطوا سلطانهم على سائر بلاد المغرب ، وبدت دولتهم قوية شامخة ، فاستجاب زعيمهم
يوسف بن تاشفين إلى صريخ الأندلس، وعبر البحر بقواته إلى الأندلس .
وكانت هزيمة اسبانيا النصرانية على يد جيوش المغرب والأندلس في موقعة الزلاقة( 479 ه/ 1086م) فاتحة حياة جديدة للأمة الأندلسية .
وبالرغم من المرابطين استولوا على الأندلس بعد ذلك بأعوام قلائل و بسطوا حكمهم عليها ، فقد استمد الإسلام في اسبانيا من قوتهم قوة جديدة ، وعاد الصراع الخالد بين الدولة الإسلامية وبين اسبانيا النصرانية ، يضطرم في نوع من تكافيء القوى .
ولما اضمحل سلطان المرابطين في الأندلس بعد ذلك بنحو ستين عاما ، وخلفهم الموحدون في ملك المغرب والأندلس ، لبثت الدولة الإسلامية حقبة أخرى في شبه الجزيرة عزيزة قوية الجانب نوعا ، وإن كانت قد فقدت في تلك الفترة بعض قواعدها التالدة ، مثل سرقسطة التي سقطت في يد النصارى سنة (512 ه/1118م) وبقية قواعد الثغر الأعلى التي سقطت بعد ذلك بفترة قصيرة .
وأحرز الإسلام للمرة الثانية على النصرانية نصرة حاسما في موقعة الأرك الشهيرة ، التي انتصرت فيها جيوش يعقوب المنصور خليفة الموحدين على جيوش ألفونسو الثامن ملك قشتالة (593 ه - 1195م)، وانكمشت اسبانيا النصرانية مدى حين، ...
ولكنها عادت فاجتمعت كلمتها تحت لواء ألفونسو الثامن ، وسارت الحيوش النصرانية المتحدة إلى لقاء المسلمين بقيادة خليفة الموحدين محمد الناصر ولد يعقوب المنصور ، وأصيب المسلمون في موقعة العقاب . بهزيمة فادحة (609 ه/1212م) وأخذ سلطان الموحدين في الأندلس يتداعى من ذلك الحين .
وبدا مصير الأندلس يهتز في يد القدر ، وبدت أسبانيا النصرانية يومئذ في أوج سلطانها وقوتها .
ولم تمض فترة وجيزة أخرى حتى بدأت قواعد الأندلس العظيمة ، تسقط تباعا في يد النصارى : قرطبة (633 ه) فبلنسية (636 ه) فمرسية (641 ه) فشاطبة ودانية (644 ه) فإشبيلية (646 ه) .
وهكذا سقطت عدة من قواعد الأندلس التالدة ومنها عاصمة الخلافة القديمة في يد أسبانيا النصرانية في مدى عشرة أعوام فقط ، ولقيت الأندلس أعظم محنها في تلك الفترة العصيبة ، ولاح لأسبانيا النصرانية ان حرب الإسترداد القومية لن تلبث حتى تتوج في أعوام قلائل أخرى بالقضاء على ما بقي من تراث الإسلام في الأندلس .
ولكن شاء القدر أن تتمخض هذه المحنة ، التي غمرت الأندلس في أوائل القرن السابع الهجري ، عن قيام مملكة إسلامية جديدة هي مملكة غرناطة ، تتمتع بالرغم من صغرها بكثير من عناصر الفتوة والحيوية .
وفي الوقت الذي خيل فيه لأسبانيا النصرانية أنها أضحت على وشك الإجهاز على المملكة الإسلامية ، كانت بذور صراع مرير طويل الأمد تنمو وتتوطد ، وإذا بالنهاية المرجوة تستحيل إلى بداية جديدة .
ولقد استطالت هذه المرحلة الأخيرة من حرب الاسترداد زهاء
مائتين وخمسين عاما ، صمدت فيها المملكة الإسلامية لهجمات أسبانيا النصرانية المستمرة ، وعملت على استغلال كل فرصة للمطاولة والمقاومة ، وأبدت في النضال على صغر رقعتها وضآلة مواردها ، بسالة عجيبة .
وكانت كلما شعرت بالخطر الداهم يكاد ينقض عليها وبودي بحياتها ، استغاثت بجارتها المسلمة من وراء البحر ، أو عصفت بأسبانيا النصرانية ريح الخلاف والتفرق فشغلها عن إرهاق المملكة الإسلامية حينا ، حتى شاء القدر بعد طول النضال أن تنتهي هذه المعركة القاسية الطويلة إلى نهايتها المحتومة ، وأن تنهار المملكة الإسلامية الصغيرة أمام ضغط القوة القاهرة ، وأن تختم حياتها المجيدة أبية كريمة .
وهنا يجدر بنا أن نحاول أن نلقي شيئا من الضياء ، على طبيعة هذا النضال ، الذي استمر قرونا بين الأمة الأندلسية وبين اسبانيا النصرانية ، وإلى أي حد كانت تحدوه العوامل القومية أو الدينية .
كانت العوامل القومية والدينية ، تمتزج بأدوار هذا النضال في معظم أطواره، وكانت تشتد حينا و تخبو حينا تبعا لتطور الحوادث .
ولما افتتح العرب اسبانيا ، وسيطرت الدولة الإسلامية على معظم أنحائها ، قامت المملكة الإسبانية النصرانية الناشئة في قاصية الشمال ، ترقب الفرص للتوطد والتوسع . بيد أنها لم تجرؤ على تحدى المملكة الإسلامية والنزول إلى ميدان النضال قبل أواخر القرن التاسع .
في ذلك الحين اضطرمت الأندلس بالفتن والثورات الداخلية ، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثوار والنواحي . وكانت غزوات النصارى للأراضي الإسلامية يومئذ غزوات عبث يغلب عليها حب الانتقام والمغنم .
ولم يكن بطبعها شيء من تلك الروح الدينية العميقة ، التي جمعت أوربا النصرانية تحت لواء کارل مارتل لمحاربة العرب على ضفاف اللوار ، والتي حفزت شارلمان فيما بعد إلى عبور
جبال البرنيه وغزو الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل .
غير أنه لما اشتد ساعد الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر ( أوائل القرن العاشر الميلادی ) وظهرت المملكة الإسلامية في أوج قوتها وظفرها ، ونفذت الجيوش الإسلامية غير مرة إلى أعماق المملكة النصرانية ، وشعر النصارى بالخطر الداهم على كيانهم ، فأخذت العوامل الدينية والقومية تستيقظ من سباتها ...
واتحدت المملكتان النصرانيتان ليون و نافار ( نبرة ) على مقاومة الخطر الإسلامي . وكانت المعارك التي نشبت في تلك الفترة في عهد أردونيو الثاني وولده راميرو بين المسلمين والنصارى ، تحدوها من الجانبين ، فوق نزعتها القومية ، نزعة دينية واضحة ؛ ..
فكانت غزوات المسلمين تحمل طابع الجهاد ، وهرع أهل الثغور إلى مرافقة الجيش لمقاتلة النصارى ، وكان يرافق الجند النصارى إلى القتال جموع غفيرة من الأخبار ورجال الدين ، يسقطون إلى جانب الفرسان في ساحة الوغى ، وكانت هذه الصيغة القومية الدينية تبدو كلما اشتد الخطر من الجنوب على اسبانيا النصرانية .
ففي أواخر القرن العاشر في عهد الحاجب المنصور، حينما اشتدت وطأة الأندلس على اسبانيا النصرانية ، وغزا المسلمون أقصى وأمنع معاقلها الشمالية ، فاتحدت الممالك النصرانية الثلاث ليون وقشتالة ونافار ضد المسلمين في جهة دفاعية موحدة ..
وبدت كذلك موحدة الرأي والقوى ، حينما عبرت جموع البربر إلى الأندلس تحت لواء المرابطين، المستنقذ للأندلس من خطر الفناء الذي كان يهددها، من جراء تفرق ملوك الطوائف .
وكانت موقعة الزلاقة تحمل في نظر المسلمين طابع الجهاد في سبيل الله ، وتطبعها في نظر النصارى صبغة صليبية واضحة ، ولم يكن نصر الزلاقة نصرا للأندلس على خصيتمها أسبانيا فقط ، ولكنه كان نصر الإسلام على النصرانية أيضا .
وكذا كان نصر الموحدين في موقعة الأرك ، ثم هزيمتهم بعد ذلك في موقعة العقاب ، تحمل كلاهما من الجانبين هذا الطابع الديني العميق .
ويجب أن نذكر أن الحروب الصليبية ، قد بدأت في المشرق بعد موقعة الزلاقة بقليل ، واستمرت تضطرم بين المسلمين والنصارى في مصر والشام زهاء قرنين ، وبلغت ذروتها أيام الملك الناصر صلاح الدين معاصر الخليفة يعقوب المنصور الظافر في معركة الأرك .
ولم يك ثمة شك في أن النزعة الصليبية التي دفعت بجحافل الغرب إلى الشرق الإسلامي ، كانت تحدث صداها قويا في أسبانيا النصرانية وفي الغرب الإسلامي كما تقدم وفي الوقت الذي كانت جيوش الصليبيين تحاول فيه أن تغزو مصر حصن الإسلام في المشرق .
في أوائل القرن السابع الهجري ، كانت قواعد الأندلس الكبيرة تسقط في أيدي النصارى ، وكانت اسبانيا النصرانية تبدو يومئذ إزاء الأندلس ، موحدة الرأي والقوى، كما كانت الجيوش الأوربية الصليبية تسير إلى المشرق متحدة التحقيق الغرض المشترك .
وقد ظهر صدى النزعة الصليبية في اسبانيا في شكل آخر ، هو قيام الجماعات الدينية المحاربة ؛ ونحن نعرف أن جماعات الفرسان الدينية قامت في المشرق في ظل الصليبين ، واشتهر منهم بالأخص جماعة فرسان المعبد أو « الداوية » حسب الرواية العربية ، وفرسان القديس يوحنا أو الأسبتارية .
وكانت هذه الجماعات الدينية المحاربة، تشد أزر الأمراء النصارى وتؤدى للصليبيين أثناء الحرب والسلم خدمات كبيرة .
وكما أن قيامها في المشرق كان أثرة من آثار المعارك الصليبية ، فكذلك كان قيامها في اسبانيا أثرا من آثار النضال بين اسبانيا النصرانية وبين اسبانيا المسلمة .
ذلك أن بعض الفرسان والرهبان الورعين المتحمسين ، كان
بحزنهم تفرق الملوك النصارى وتخاذلهم أحيانا في مقاتلة المسلمين ، وكانوا يرون أنه لابد من قيام جماعات غیورة مخلصة من الفرسان، تنذر نفسها للدفاع عن الدين وعن الأراضى النصرانية .
وكانت قدوتهم في ذلك جماعات المسلمين من أهل الثغور والمرابطة ، فقد كانت هذه الجماعات المجاهدة التي ترابط عند حدود الأراضي الإسلامية ، تبدى في محاربة النصارى بسالة منقطعة النظر ، وتؤدي للجيوش الإسلامية أجل الخدمات .
فلما أنشئت جماعة فرسان المعبد ( الداوية ) في بيت المقدس سنة 1119م عقب قيام المملكة اللاتينية (بيت المقدس الصليبية) بقليل ، كان لقيامها صدى عظيم في أسبانيا ، لم تمض أعوام قلائل حتى قامت أول جمعية محاربة دينية في أراجون في عهد ألفونسو المحارب ، في صورة فرع لجماعة فرسان المعبد ، ..
وأبدى ألفونسو في تأييدها حماسا شديدا ، وانتظم في سلكها الكونت ريمون برنجار أمير برشلونة ، وأقطعت عدة حصون وأراض شاسعة على حدود أراجون ، كما احتلت عددا من الحصون في قشتالة ، ونمت بسرعة وأخذت تضطلع من ذلك الحين ، بدور هام في سائر المواقع التي تنشب بين النصارى والمسلمين ..
وقامت في قشتالة بعد ذلك بقليل أعظم الجمعيات الدينية المحاربة ، في أواخر عهد القيصر ألفونسو ريمونديس أو ألفونسو السابع ملك قشتالة ، قامت حوالي سنة (1150م) جمعية فرسان دينية قوية في بعض أدبار منطقة شلمنقة ؛ وسميت بجمعية القديس يوليان ، ثم سميت بعد ذلك بجمعية فرسان القنطرة .
وفي سنة (1158م) قامت جمعية دينية محاربة أخرى، ربما كانت أشهر وأقوى جماعات الفرسان التي ظهرت في اسبانيا في هذا العصر ، وهي جمعية « فرسان قلعة رباح ،،
ونشأت لأول أمرها على يد بعض الرهبان الورعين المتحمسين الذين عملوا على حشد الجند النصارى للتطوع للدفاع عن تلك القلعة الحصينة ضد المسلمين ، و اتخذت قلعة رباح مركزا لها .
وقامت أيضا في البرتغال عدة فروع لفرسان المعبد ( الداوية ) وفرسان القديس يوحنا ( الأسبتارية ).
وظهرت هذه الجمعيات الدينية المحاربة ولاسيما فرسان القنطرة وفرسان قلعة رباح في كثير من المعارك ، التي نشبت
في تلك العصور بين المسلمين والنصارى ، وكان تدخلهم في كثير من الأحيان من عوامل النصر والإنقاذ للجيوش النصرانية ، ...
بيد أنهم بالرغم من صفتهم الدينية والصليبية كانت تحدوهم بواعث وأطماع دنيوية، وكان ظمأ الكسب و اجتناء المغانم هو روحهم التي تسيرهم ، وكانوا يسيطرون على قلاع كثيرة وأراض واسعة ، ويعيشون في بذخ وترف ، مما يحصلون عليه من الإقطاعات والهبات والنذور الوفيرة ، وكان تدخلهم في شئون السياسة والعرش يشتد أحيانا ، ويفضى إلى أحداث وتطورات خطيرة ...
وكانت أسبانيا النصرانية حينها بدأت حرب الإسترداد الحقيقية La Reconquista في أواسط القرن الثالث عشر ، عقب سقوط القواعد الأندلسية الكبيرة تجيش إلى جانب نزعتها القومية بهذه النزعة الصليبية الواضحة .
على أنه يمكن القول أن ظهور هذه النزعة القومية والدينية العميقة في حروب اسبانيا النصرانية مع المسلمين ، لم يكن ملحوظا بصورة واضحة ، حينما كان التفوق في القوة لإسبانيا المسلمة أيام الدولة الأموية ، وحينها كان ثمة نوع من توازن القوى السياسية والعسكرية بين الأندلس واسبانيا النصرانية أيام المرابطين والموحدین ..
وتدل حوادث التاريخ الأندلسي حتى أواخر القرن الثاني عشر على أن التعصب القومى أو الديني لم يكن دائما ظاهرة بارزة ، في حروب المسلمين والنصاری .
فقد كان الفريقان المتحاربان على وجه العموم يحترم بعضهم بعضا ، وكان التعصب الديني قاصرا على حماعات الفقهاء من ناحية ، وعلى القساوسة والأحبار من جهة أخرى ؛ ويوصف المسلمون في الأناشيد الإسبانية القديمة بأنهم خصوم شرفاء ، ولا يجيش النصاری نحوهم ببغض أكثر مما كان يجيش به المسلمون أنفسهم بعضهم نحو بعض في الحروب الأهلية التي كانت تنشب فيما بينهما .
يقول العلامة دوزی : « إن الفارس الإسباني في العصور الوسطى لم يكن يحارب من أجل دينه أو وطنه ، بل كان مثل "السيد lord، محارب لكسب عيشه ، سواء في ظل أمير مسلم
أو أمير نصرانی . ولقد كان و السيد نفسه أقرب إلى روح المسلم منه إلى الكاثوليكي".
وفي حياة السيد الكمبيادور ( الكنبيطور) نفسه أوضح مثل لاتجاهات الفروسة الإسبانية في تلك العصور، فقد نشأ السيد وظهر في كنف أمير مسلم ، وتقلب في خدمة الأمراءالمسلمين والنصارى على السواء ، ..
بل لقد خدم الأمراء المسلمين أكثر مما خدم الأمراء النصارى ، ولو لم يمت و هو في خدمة الجانب النصراني لما حفلت به الأساطير الإسبانية ، ورفعته إلى مرتبة البطل القومي .
وفي أحيان كثيرة نرى المرتزقة من الفرسان والجند النصارى يعملون في الجيوش الإسلامية ؛ وفي مواطن عديدة من تاريخ اسبانيا النصرانية ، نرى الملوك والأمراء النصارى خلال الحروب الأهلية بينهم يلوذون بحماية الأمراء المسلمين .
فقد لجأ سانشو ملك ليون إلى حماية عبد الرحمن الناصر حينما استأثر أخوه أردونیو بالملك دونه ،..
ولجأ ألفونسو السادس ملك قشتالة إلى حماية المأمون بن ذي النون أمير طليطلة ، حينما تغلب عليه أخوه سانشو الثاني؛ وعاش في بلاط المأمون حتى توفي أخوه؛ فلما ارتقی عرش قشتالة كان أعظم مشاريعه أن ينتزع طليطلة من يد القادر بن ذي النون ولد المحسن إليه .
وفي سنة 990 م قدم برمودو (برمند الثاني) أخته زوجة لحاكم طليطلة المسلم . ولم يكن زواج الأمراء المسلمين من الأميرات والعقائل النصارى أمرا نادرا .
وربما كان تاريخ بلنسية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر أسطع مثل لهذا الامتزاج والتفاهم بين الفريقين المتحاربين ، ففيه يكثر التحالف بين المسلمين والنصارى ولاسيما أيام "السيد" وبعدها .
وقد كان أمير بلنسية في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدین محمد بن سعد المعروف بابن مردنیش ينتمي حسبما قدممنا إلى أسرة من المولدين أعني من أصل نصرانی ، وكان يرتدی الثياب القشتالية ، ويعتمد في جيشه على الضباط والجند النصارى .
ولم يحجم أمراء المرابطين في الأندلس عن الإستعانة بألفونسو ريموندیس ملك قشتالة وحليفه غرسية ملك نافار على محاربة الموحدین ، حينما انهارت دولتهم في المغرب ، وبدأ الموحدون في انتزاع الأندلس من أيدهم ، وهذا ما فعله بالأخص الأمير محي بن غانية آخر زعماء المرابطين بالأندلس حينما استعان بالقيصر ألفونسو السابع على الاحتفاظ برئاسته لقرطبة .
وهذا ما فعله أيضا الخليفة الموحدي أبو العلاء المأمون حينها اتفق فرناندو الثالث ملك قشتالة، على معاونته بفرقة من الفرسان النصارى يستعين بها على استراد العرش من خصومه.
ولم ينقطع هذا التعاون بين المسلمين و النصاری حتى بعد أن بدأت مرحلة الإسترداد الأخيرة ؛ فقد كان موسس محمد بن الأحمر في بداية أمره ، ينضوي حسبما رأينا تحت حماية ملك قشتالة ، ويتعهد بمعاونته في حروبه ضد خصومه من المسلمين والنصارى .
ونجد من الجانب الآخر أمراء النصارى ، يلوذون من وقت إلى آخر بحماية المسلمين حتى في ذلك العصر الذي تضاءلت فيه المملكة الإسلامية ،...
فنرى الإنفانت فيليب حينها ثار على أخيه الملك ألفونسو العاشر ، يلتجيء مع جماعة من النبلاء إلى حماية السلطان أبي يوسف المنصور المريني ملك المغرب ، ويستقرون ضيوفا في بلاط غرناطة ، حتى انتهى ملك قشتالة إلى مصالحتهم واسترضائهم (1270م).
وفي سنة (1282م) اضطر ألفونسو العاشر نفسه حينما ثار عليه ولده سانشو وانتزع منه للعرش، إلى الاستعانة بالسلطان أبي يوسف ، وأرسل إليه تاجه مقابل ما ينفقه على معاونته ؛ فاستجاب إليه وأمده بالمال و الجند .
وفي سنة (1332م) ثار حاکم مملكة غرناطة والفرنترة النصراني ضد مليكه ألفونسو الحادي عشر ، وتحالف ملك
غرناطة وعاون بذلك في رد النصارى عن جبل طارق ، وكانوا على وشك الاستيلاء عليه .
ولما نشبت الثورة ضد ولده پیدرو القاسی ( دوق بطره ) و نزع عن عرشه ، ونشبت بينه وبين خصومه موقعة مونتيل الفاصلة سنة (1397م)، كان إلى جانبه فرقة من الفرسان المسلمين ، أمده بها حليفه الغني بالله ملك غرناطة .
وهكذا كان التعاون السياسي والحربي يجري بين الفريقين من آونة إلى أخرى ، حتى في تلك العصور التي مال فيها نجم الأندلس إلى الأفول ، ولم تكن تحول دونه عقده القومية أو الدين ؛
وكانت العلائق التجارية أيام السلم تجرى بانتظام ، وتنظم
بمعاهدات ودية بين الفريقين ، ومن ذلك معاهدة الصداقة والتحالف التي عقدها.محمد بن يوسف ملك غرناطة مع مرتين ملك أراجون لتنظيم العلائق و المبادلات الحرة ، وتنظيم التحالف السياسي بين المملكتين (سنة 1405 م ) .
هذا ويجب ألا ننسى ، ما كان هنالك من علائق المودة والتفاهم بين جماعات الفرسان من الفريقين ، وقد كانت الفروسية الإسبانية في العصور الوسطى تقتبس كثيرا من تقاليد الفروسية الإسلامية وخلالها الرفيعة ، وتنظر إليها بعين التقدير والاحترام .
وكانت مباريات الفروسية تجمع بين أنبل الفرسان من الجانبين ، وكثيرا ماكانت تعقد في العاصمة الإسلامية في جو من العطف والحماسة ، ويهرع إلى مشاهدتها ألوف من المسلمين والنصارى ؛ وكانت هذه الاجتماعات المثالية البهجة التي تجمع بين العنصرين الخصيمين ، أبعد ما يكون عن الاعتبارات القومية والدينية .
وقد كانت غرناطة التي اشتهرت بفروستها النبيلة البارعة ، مسرحا لكثير من هذه المباريات الشهيرة .
تلك هي الصورة المتباينة ، التي تقدمها إلينا معركة السلطان والقوة ، ومعركة الحياة والموت ، والحرية والاستعباد ، بين الأندلس و اسبانيا النصرانية .
ذلك أن بواعث الدين والقومية ، لم تكن دائما كل شيء ، في هذا الصراع المضطرم الطويل الأمد ؛ فقد كانت النزعة الدينية أو الصليبية ، تبدو كلما لاح شبح الخطر الداهم على كيان أحد الفريقين ، أو كلما اتخذ النضال بین الفريقين صبغة حاسمة .
ولما شعرت أسبانيا النصرانية أنها أضحت في مركز التفوق والغلبة؛ بعد الاستيلاء على القواعد الأندلسية الكبيرة ، وتضاؤل المملكة الإسلامية ، لم يكن ثمة ما يدعو لأن تتخذ حرب الإسترداد التي تلت بعد ذلك ، بين اسبانيا النصرانية وبين مملكة غرناطة ، ألوانا دينية أو قومية عميقة .
ذلك أن السلطان قد بت فيها نهائيا بظفر اسبانيا النصرانية، وأضحى القضاء على الأندلس : مسألة وقت فقط ؛ وكانت أسبانيا النصرانية كلما حاولت أن تتعجل تحقيق هذه الغاية القومية الخطيرة ، عاقتها المنازعات والثورات الداخلية ، أو ردها تدخل الدولة الإسلامية القوية فيما وراء البحر .
على أنه ما كاد يبدو تفكك المملكة الإسلامية قويا واضحا ، وما كادت حرب الإسترداد تدخل في طورها الأخير ، حتى بدت النزعة القومية والدينية واضحة قوية ، في جهود اسبانيا النصرانية للقضاء على مملكة غرناطة .
ولما اتحدت اسبانيا النصرانية نهائيا ، وتم اندماجها في مملكة موحدة بزواج فرناندو ملك أراجون وإيسابيلا ملكة قشتالة ، اتخذت حروب غرناطة الأخيرة لونا صليبيا عميقا ، يذكيها ويزيد في ضرامها حماسة هذه الملكة المتعصبة ، ومن حولها الأحبار المتعصبون ، وأسبغ على فرناندو لقب الكاثوليكي ، وعلى إيسابيلا لقب "الكاثوليكية "
وكان أول عمل قام به الجند القشتاليون حينما دخلوا غرناطة في الثاني من يناير سنة( 1492م) ، أن رفعوا الصليب فوق أبراج الحمراء ، ورفعوا إلى جانب علم قشتالة علم القديس ياقب ، وأقام الرهبان القداس داخل قصر الحمراء ،...
ودفنت الملكة إيسابيلا وزوجها الملك فرناندو في كتدرائية غرناطة التي أقيمت فوق أنقاض المسجد الجامع ،، تنويها بظفرهما على الإسلام ، ...
وكانت سياسة اسبانيا النصرانية إزاء الأمة الأندلسية المغلوبة ، منذ إكراهها على التنصير في عصر فرناندو حتى مأساة النفي النهائى في عصر فيليب الثالث ، تقوم على بواعث دينية وصليبية محضة ، يصوغها ويحرض عليها أحبار الكنيسة ، ويدعمها ديوان التحقيق بقضائه الكنسي المروع ووسائله الدموية ..
وعلى الجملة فقد كانت جهود أسبانيا النصرانية في القضاء على الأمة الأندلسية ، تمثل منذ بدايتها إلى نهايتها مأساة من أروع وأشنع مآسي التعصب الديني والقومي التي عرفها التاريخ .
وتلك المأساة التي استطالت مائتين وخمسين عاما هي ما سنتعرض له في الفقرات القادمة إن شاء الله
---------------------------------------------------------------------
☆Isidro de las Cagigas : Los Mudéjares, P. 16
☆Dr. Lea: History of the Inquisition; V.1p. 52-55
☆ المملكة الموريسكية في أوربا Scott V II.
☆ محمد عبد الله عنان نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين ص 74 - 83
--------------------------------------------------------------------
#نهايةالأندلسجواهر
إرسال تعليق