تاريخ التتار الأول (10)
في العام 618 هجرية / 1221م لما بلغ جنكيز خان أن جلال الدين منكبرتي وصل إقليم غزنة في جيش كبير، أسرع في المسير إلى هذا الإقليم، وحاصر في طريقه قلعة باميان الحصينة ببعض جيشه الذي كان قوامه ستين ألف مقاتل ؛ على حين أرسل معظمه للقاء جلال الدين،
وما لبثت قواته أن اقتحمت هذه القلعة، ودخلت المدينة، وهدمت ما بها من جوامع وقصور وأزالت معالم الحياة فيها ،
ولما أتم جنكيز خان إحراز ذلك النصر الحاسم على مدينة باميان جاءته، الأنباء بأن جلال الدين تمكن من دحر جيش المغول في السهول القريبة من مدينة بيروان بالقرب من مدينة غزنة، فسار جنكيز خان بمن معه لملاقاته، ...
كان جنكيز خان قد أرسل في وقت سابق بعض قواته لترابط بالقرب من مدينة كابل وعهد إليها مراقبة تحركات جلال الدين، وتقديم أية مساعدة تحتاج إليها طليعة جيشه التي كانت تحاصر قلعة (قندهار)،
فلما حلت بتلك الطليعة الهزيمة على يدي جلال الدين منكبرتي، اتجهت هذه القوات المغولية نحو بيروان القريبة من غزنة، ونشب القتال بينها وبين الجيش الإسلامي في السهول المحيطة بهذه المدينة ،
وصل جلال الدين بعد انتصاره في قندهار إلى مدينة غزنة وأخذ يجمع حوله الجيوش استعداداً للقاء المغول، فوافاه للخدمة سيف الدين بقراق الخليجي، وأعظم ملك صاحب بلخ، والأميران: مظفر ملك والحسن قزلق في زهاء ثلاثين ألف فارس، ومعه من عسكره وعسكر أمين ملك مثلها،
وهكذا تيسر لجلال الدين أن يجمع جيشاً قوامه ستون ألف مقاتل، ثم سار لملاقاة الجيش المغولي الذي يقوده تولوي بن جنكيز خان، واستمر القتال يوماً، ثم افترق الجيشان عند الليل ليستأنفا القتال في الغداة،
ورغم حيل المغول لإرهاب الجيش الإسلامي فقد كان لشجاعة جلال الدين أثرها في هزيمة المغول وفرارهم أمام فرسان الخوارزميين ،
وقد وصف النسوي انتصار الخوارزميين على المغول وصفاً أقل ما يقال عنه أنه يعبر تعبيراً صادقاً عن نفسية الخوارزميين في ذلك الوقت، فقد جاء في وصف هذا الانتصار ما يلي:
{فلما اشتبك الجمعان حمل جلال الدين بنفسه على قلب جيش تولوي خان، فبدد نظامه، ونثر تحت قوائم الخيل أعلامه وألجأه إلى الانهزام، وإسلام المقام، وتحكمت فيهم سيوف الانتقام،
وركب جلال الدين أكتاف المغول يفصل بالأسياف مجامع الأكتاف، وكيف لا وقد فجعوه بأخوته وأبيه ومملكته وذويه، فترك لا والد ولا مولود ولا عابد ولا معبود، تلفظه النوادي إلى البوادي، وقتل تولوي خان في وهج القتال،
وكثر الأسر ، وقد انتقم الخوارزميون من المغول انتقاماً شديداً فكانوا يدقون الأوتاد في آذان الأسري، وجلال الدين ينظر إليهم، ويعلو وجهه البشاشة بما ظفر .}
وكان من أثر ذلك النصر الذي أحرزه جلال الدين في هذه المعركة أن ثارت على المغول بعض المدن الإسلامية التي كانت قد خضعت لهم، وسلمت من تدميرهم، مثل مدينة هراة، غير أن ثورتها أخمدت في مهدها،
كما دب الخوف في قلوب المغول الذين كانوا يحاصرون قلعة (ولج)، واضطروا إلى رفع الحصار عنها ،
ولكن للأسف ! كان انتصار جلال الدين على المغول في سهول بيروان انتصاراً مؤقتاً،
فبينما كان يوزع الغنائم على قواته وجنوده اشتد النزاع بين قائدين من كبار قواته على حصان عربي كان كل منهما يريده لنفسه، وبلغ من شدة الخلاف أن ضرب أحدهما الآخر على رأسه بسوط كان يحمله،
ولم يرض السلطان منكبرتي عن هذه الإهانة، ولم يقبل القائد المعتدي أن يعتذر عما بدر منه، وكانت النتيجة أن انسحب القائد الآخر بجنوده إلى مدينة (بيشاور) إلى حدود الهند، وانضم إليه عدد كبير من الجنود الغورية من مدينة غزنة بعد أن خابت جميع جهود السلطان لاعادتهم ،
---------------------------
وبينما كانت قوات المسلمين على هذه الحالة من الفرقة والانقسام إذ وصل جنكيز خان إلى غزنة وهو مصمم على الانتقام لهزيمة جيشه التي حدثت عند مشارف مدينة بيروان،
لم يكن من الصواب في شي أن يجازف جلال الدين بحرب المغول، وجيشه في هذه الحالة، لذا آثر الإنسحاب إلى السهل الواقع غربي نهر السند، وأخذ يعاود مكاتبة المنشقين ويستميلهم إليه ،
رتب جلال منكبرتي سنة 618هـ/1221م ما بقي معه من الجيش ترتيباً حسناً، فأسند قيادة الميمنة لقائده آمين ملك وأمره بجعل ظهره إلى منعطف نهر السند، كما أمر قائد الميسرة بالاستناد إلى أحد مرتفعات الجبال في هذه المنطقة،
وبقي هو في القلب، ثم نشب القتال، وكادت الهزيمة تلحق بالمغول في البداية، لكنهم ما لبثوا أن اجتاحوا القوات الإسلامية من الخلف، كما هاجموا الميمنة من الإمام مما أدى إلى هزيمة المسلمين ،
على أن جلال الدين رغم ذلك لم يستسلم، بل ظل يقاتل وليس معه سوى سبعمائة رجل في شجاعة نادرة، وصفها ابن الأثير بقوله:
{ اعترفوا كلهم أن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال }
وكان هدف جلال الدين من هذا القتال اليائس إحداث ثغرة في صفوف المغول، يتيسر له ولجيشه الهرب منها، غير أنه اضطر إلى أن يولي وجهه شطر نهر السند، وقذف بنفسه وبحصانه فيه من ارتفاع عشرين ذراعاً،
واستطاع بهذه الوسيلة أن يعبر النهر إلى الجانب الشرقي، وقد قتل عدد كبير من جنوده وغرق أولئك الذين حاولوا العبور إلى الضفة الشرقية، كما أسر أحد أبنائه وكان في السابعة من عمره، ثم قتله جنكيز خان بين يديه،
ولما اقترب جلال الدين من نهر السند، رأى والدته وأم ابنه وحريمه يصحن بالله عليك اقتلنا وخلصنا من الأسر، فأمر بهن فغرقن، وهذه من عجائب البلايا ونوادر الرزايا .
ومن الطريف أن جلال منكبرتي احتفظ بذلك الجواد الذي عبر به نهر السند، وكان سبباً في إنقاذ حياته دون أن يركبه حتى استعاد بلاده بعد رحيل جنكيز خان عنها.
--------------------------------
كانت الجيوش المغولية تتوق إلى اللحاق بجلال الدين، وهمَّ كثير منهم بعبور النهر غير أن جنكيز خان أسرع ومنع جنوده من تنفيذ هذا العمل،
ولما علم جنكيز خان أن عدوه قد أمر بأن يلقي كل ما كان يملكه من ذهب وفضة في نهر السند حتى لا يقع غنيمة سهلة في يد المغول، أرسل بعض رجاله فغاصوا في النهر وأمكنهم أن ينتشلوا بعض هذه الأموال .
وبرغم حرج موقف الخوارزميين في هذه الموقعة، ورغم تلك الهزيمة التي حلت بالسلطان الخوارزمي وجنوده، استطاع أربعة آلاف من الجنود الخوارزميين أن ينجوا بأنفسهم بعبورهم من الضفة الشرقية حيث وصلوا، حفاة عراة، كأنهم أهل النشور حشروا فبعثوا من القبور .
كان من الطبيعي أن يفرح السلطان جلال الدين بلقاء هذا العدد من جنوده ، وما لا شك فيه أن جلال الدين، في الفترة التي قضاها في بلاد الهند، كثيراً ما كان يظهر بمظهر الكسير الذليل من هول ما أصاب دولته عامة، وأصابه خاصة، بعد موقعة السند ...
وقد نظم ابن الوردي أبياتاً وصف فيها جلال الدين ودولته وكيف انحدر هو ودولته إلى هاوية عميقة، بعد أن قدر لهذه الدولة أن تصل إلى ذروة المجد وقد جاء في هذه القصيدة ما يلي:
من ملك الدنيا ودانت له
فالجهل كل الجهل أن يحسدا
بقدر ما ترفع أصحابها
تحطهم فالرأي قرب المدى
ويلي على المغري بعليائها
سيضحك اليوم ويبكي غدا
تعطيه كالمشفق لكنها
تبطش في الأخذ كبطش العدى
--------------------------------
لقد كان جلال الدين مضرب المثل في الشجاعة والإقدام، وأعجب خصمه وعدوه جنكيز خان، وقال:
هكذا يكون الرجال الشجعان .
وقال لرجال دولته: ما أسعد الأب الذي ينجب رجلاً قوياً شجاعاً كهذا، أي جلال الدين، لأن الرجل الشجاع يقدر الرجل الشجاع ولو كان ألد خصومه ،
----------------------------
كان إقليم غزنة آخر أقطار شرق الدولة الإسلامية التي غزاها المغول في عهد الناصر لدين الله الخليفة العباسي،
وبعد أن اطمأن جنكيز خان إلى تمكنه من السيطرة على هذه البلاد، وانتقم من قاتلي تجاره ورسله في مدينة أترار ، أكد المغول سيطرتهم على المناطق الإسلامية الشاسعة ما بين الصين والعراق
فثبتوا أقدامهم في كل بقاع الدولة الخوارزمية، وهذا يشمل الآن أسماء الدول الآتية من الشرق إلى الغرب:
1 ـ كازخستان ، 2 ـ قيرغيزستان، 3ـ طاجيكستان،
4 ـ أوزبكستان ، 5 ـ تركمنستان، 6 ـ باكستان، باستثناء المناطق الجنوبية فيها والمعروفة بإقليم كرمان،
7 ـ أفغانستان ، 8 ـ معظم إيران، باستثناء الحدود الغربية لها مع العراق، والتي يسكنها الإسماعيلية،
9 ـ أذربيجان ، 10ـ أرمينية،
11 ـ جورجيا ، 12 ـ الجنوب الغربي لروسيا .
---------------------------------------------------------------------
نهاية جلال الدين منكبرتي :
بعد أن اضطر جلال الدين إلى الفرار إلى بلاد الهند عبر نهر السند على إثر اختلاف قواد جيشه، وتفرق جنده وبالتالي هزيمته أمام جيش جنكيز خان في العام ،617هجرية/ 1220م.
وقبل أن يخرج من الهند سنة 621هـ /1224م
قرر أن تكون وجهته إلى أقصى الغرب ، وبمعنى آخر فإنه آثر أن يضع نفسه وما تبقي من جيشه في أبعد نقطة عن متناول جيوش المغول،
ومن ثم فقد اجتاز الصحراء القاحلة التي تفصل بين الهند وإقليم كرمان الذي سارع حاكمه براق الحاجب بإعلان ولائه للسلطان الخوارزمي ، بل أنه عرض إحدى بناته عليه ليتزوجها، فقبل السلطان ذلك منه،
وتكرر الإجراء نفسه مع سعد الله أتابك إقليم فارس، وعلاء الدين حاكم إقليم يزد .
وكانت الخطوة التالية لجلال الدين هي الاستيلاء على مدينة أصفهان عاصمة إقليم الجبال الذي يتحكم في المنطقة الغربية من إيران، ومن ثم انتقل إليها فدانت له،
ولما كان أخوه غياث الدين ـ يحكم تلك المنطقة من قبل أبيهما السلطان علاء الدين ـ وتوطد حكمه فيها بعد انسحاب المغول منها عائدين باتجاه الشرق، فقد أعلن بدوره انضواءه تحت راية أخيه،
فأصبح غربي إيران بأكمله واقعاً تحت سلطان جلال الدين الذي أضحت مملكته الجديدة متاخمة لأملاك الخلافة العباسية،
وقد ساعدت الظروف السياسية جلال الدين كثيراً، إذ توفي خصم الخوارزميين العنيد الخليفة الناصر لدين الله في شوال سنة 622هـ،
ولم يمكث ابنه الظاهر في الخلافة سوى تسعة أشهر، إذ توفي في رجب سنة 623هـ ، فآلت الخلافة إلى ابنه المستنصر سنة 623هـ/640هـ الذي لم يكن يرى الدخول في مواجهات عسكرية ضد الخوارزميين؛
ومن ثم فقد استقبل في قصر الخلافة في بغداد رسول جلال الدين .
ومن ناحية أخرى انشغل المغول في وفاة الخاقان الأعظم جنكيز خان سنة 624هـ ، وانهمكوا في الإعداد للقوريلتاي (المؤتمر العام الذي يناط به اختيار الخان الجديد)، مدة عامين أدار خلالهما تولوي ابن جنكيز خان دفة الأمور حتى تم انتخاب أوكتاي ثالث أبناء جنكيز خان خاقاناً أعظم مكان أبيه سنة 626هـ ـ 1229م .
وفي تلك الأثناء كان السلطان جلال الدين قد انطلق شمالاً إلى أذربيجان التي دانت له، فواصل الزحف شمالاً حيث هزم الكرج المسيحيين واستولى على عاصمتهم تفليس، وانتقم منهم بما ارتكبوه من فظائع في حق المسلمين وبخاصة في إقليم أذربيجان المجاور .
----------------------------------------------
بداية النهاية لجلال الدين منكبرتي :
كان استيلاء الخوارزميين في الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة 627هـ على مدينة أخلاط التابعة ـ آنذاك ـ للملك الأشرف بن العادل الأيوبي ؛...
كان بداية لنهاية السلطان جلال الدين منكبرتي حيث تعرض جيشه لهزيمة مريرة أمام تحالف جيش الأيوبيين وسلاجقة الروم في الثامن والعشرين من رمضان سنة 627هـ على مقربة من أذربيجان،
فانهزم السلطان جلال الدين إلى أذربيجان وأرسل جنوده إلى صحراء موغان لينالوا قسطاً من الراحة .
ولم يضيع الإسماعيلية في آلموت الفرصة السانحة ـ بعد أن ذاقوا الأمرين على يد السلطان جلال الدين من قبل وكان قد اضطرهم إلى دفع أتاوة سنوية له، فراسلوا المغول حتى ينهضوا للقضاء عليه، قبل أن يسترد قوته،
وفي الحقيقة لم يكن المغول في حاجة إلى تحريض من الإسماعيلية أو غيرهم، وقد جاء إنتخاب أوكتاي بن جنكيز خان سنة 626هـ خاناً أعظم للمغول إيذاناً بتنفيذ استراتيجية مغولية جديدة تمثلت في غزوات عسكرية متوالية على جبهات ثلاث هي جنوبي الصين، وغربي إيران، وشرقي أوربا،
وبالتالي أصبح غربي إيران بخاصة الشمال الغربي هدفا أساسيا للمغول، حيث يكمن عدوهم اللدود السلطان الخوارزمي جلال الدين.
وسرعان ما بادر هذا الأخير ـ رغم الخلاف ـ إلى مكاتبة الخليفة العباسي المستنصر بالله، والملك الأشرف الأيوبي صاحب دمشق والجزيرة والسلطان علاء الدين كيقباذ سلطان سلاجقة الروم،
وكتب إلي غيرهم من أمراء المسلمين، حكام ميافارقين وماردين وآمد يستنجد بهم كي يرسلوا إليه جيوشاً من عندهم تعاونه على مجابهة هذا الخطر الذي يتهدد المسلمين جميعاً،
فأحجم هؤلاء كلهم عن مناصرته .
--------------------------------
اختلال التوازن العسكري :
أسفرت الهزيمة السابقة في مدينة - أخلاط- عن نتائج خطيرة أثرت على ما تلاها من أحداث،
فقد أصيب الجيش الخوارزمي بنكسة فادحة، تمثلت في آلاف القتلى والأسرى، وفي اضطراب نظامه وفقدان السيطرة عليه ، وسقوط هيبته بين القوى العسكرية المجاورة له بعد أن كانت تخشى بأسه وسطوته،
وقد أدى هذا الاختلال في التوازن العسكري إلى ظهور مؤشرات سياسية لدى القوى السياسية في المنطقة فقد أيقن معظم أمراء الجزيرة أن الموقف الجديد يحتم عليهم سرعة الانضواء تحت الهيمنة الأيوبية التي يمثلها الملك الأشرف المقيم بدمشق، والمؤيد من قبل أخيه الكامل في مصر،
ومن جانب آخر أصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام سلاجقة الروم كي تمتد أطماعهم إلى كثير من المدن التي كانت خاضعة لسلطان الخوارزميين شرقي مدينة أخلاط ،
كذلك لم تتأخر مملكة الكرج المسيحية عن إزالة السيطرة الخوارزمية عن أراضيها وبخاصة العاصمة تفليس ، ولم تلبث بعض المدن المهمة مثل تبريز وكنجة أن أظهرت عصيانها للخوارزميين واجترأت على قتل البعض منهم،
وشرعت طائفة الإسماعيلية في آلموت في المماطلة في أداء الأتاوة المقررة عليها من قبل السلطان الخوارزمي .
وأما الخطر الأكبر وهو المغول فقد أصبح هجومه وشيكاً جداً بعد أن وصلت طلائع جيشهم إلى مدينة الري،
وانفتح الطريق أمامهم، نحو إقليم أذربيجان حيث تناثرت بقايا الجيش الخوارزمي المهزوم، كل هذه المؤثرات كانت تنبئ بزوال الدولة الخوارزمية وأفول نجم سلطانها الأخير جلال الدين منكربتي .
-------------------------------------------------------------------
* هكذا دائما المسلمون يطحنون قواهم فيما بينهم فيكونون كالوعول المتناطحة تنشغل عن عدوها فتقع فريسة سهلة للمتربصين بها
- نهاية جلال الدين و الخوارزميين
إرسال تعليق