تاريخ الدولة الأموية (13)
معاوية يرد على أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما
ما سبق :
توقفنا عند مقدمات و أسباب معركة صفين وخلصنا إلى الرأي : بأن معاوية رضي الله عنه كان مجتهداً، متأولاً يغلب ظنه أن الحق معه، فقد قام خطيباً في أهل الشام بعد أن جمعهم وذكّرهم أنه ولي عثمان ـ ابن عمه ـ وقد قتل مظلوماً، وقرأ عليهم الآية الكريمة: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء 33).
ثم قال: أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقام أهل الشام جميعهم وأجابوا إلى الطلب بدم عثمان، وبايعوه على ذلك، وأعطوه العهود والمواثيق على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفنى الله أرواحهم .
وإذا قارنّا بين موقف طلحة والزبير رضي الله عنهما، في وقعة الجمل ؛؛وموقف ومعاوية في صفين؛ لاحظنا أنهما أقرب إلى الصواب من معاوية رضي الله عنه ومن معه من أربعة أوجه :
☆ مبايعتهما لعليّ رضي الله عنه طائعين مع إعترافهما بفضله، ومعاوية لم يبايعه وإن كان معترفاً بفضله .
☆ منزلتهما في الإسلام وعند المسلمين وسابقتهما على معاوية ولاشك أن معاوية دونهما فيها .
☆ أنهما أرادا قتل الخوارج على عثمان فقط ولم يتعمدا محاربة علي ومن معه في وقعة الجمل ، بينما أصر معاوية على حرب عليّ ومن معه في صفين .
☆ لم يتهما عليّاً بالهوادة في أخذ القصاص من قتلة عثمان، ومعاوية ومن معه اتهموه بذلك . ونضيف نقطة خامسة: أن طلحة والزبير اقتنعا بصواب موقف علي ودخلا في الطاعة عندما اتفقا مع القعقاع بن عمر وإنما الحرب بإثارة الغوغاء والسبائية لها .
-------------------------------------------------------------------
كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه قد قرر عزل معاوية و تولية عبد الله بن عمر مكانه إلا أنه اعتذر ؛ فأرسل سهيل بن حنيف بدلاً منه ليلي الشام - رضوان الله عليهم جميعا -
إلا أن سهيل ما كاد يصل مشارف الشام حتى أخذته خيل معاوية وقالوا له : إن كان بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع ، وكانت بلاد الشام تغلي غضباً على مقتل عثمان ظلماً وعدواناً،..... (*1)
فلنتابع البقية
-----------------------------------------------------------------------
معاوية يرد على أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما
بعث علي رضي الله عنه كتباً كثيرة إلى معاوية فلم يرد عليه جوابها وتكرر ذلك مراراً إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان رضي الله عنه في صفر، ...
ثم بعث معاوية طُوماراً (*صحيفة) مع رجل، فدخل به على عليِّ رضي الله عنه فقال له علي : ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القوَدَ ، كلهم موتور ، تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق،..
فقال علي : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.
ثم خرج رسول معاوية من بين يدي عليَّ، فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد ...... (*2)
--------------------------------------------------------------------
تجهيز أمير المؤمنين علي(ر) لغزو الشام
بعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي رضي الله عنهما عزم الخليفة على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى الأشعري بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حنيف بالبصرة بذلك،..
وخطب الناس فحثهم على ذلك، وعزم على التجَهّزُ وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس،....
وجاء إليه ابنه الحسين رضي الله عنهما فقال : يا أبتِ دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال،...
ورتّب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن عباس على الميمنة، وعمر بن أبي سلمة على المسيرة وقيل جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخ أبي عبيدة،
واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يبق شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصداً الشام، فجاءه ما يشغله عن ذلك ، وقد تمَّ تفصيل ذلك من خروج عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة إلى معركة الجمل . (*3)
-------------------------------------------------------------------
إرسال أمير المؤمنين علي جرير بن عبد الله إلى معاوية بعد معركة الجمل
ذُكر أن المدة بين خلافة أمير المؤمنين عليّ إلى فتنة السبئية الثانية أو ما يسمى البصرة، أو معركة الجمل، خمسة أشهر وواحد عشرين يوماً، وبين دخوله الكوفة شهر، وبين ذلك وخروجه إلى صفين ستة أشهر ، وروي شهران أو ثلاثة ،
........(*4؛5)
وقد كان دخول أمير المؤمنين الكوفة يوم الاثنين لإثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين،..
فقيل له : أنزل بالقصر الأبيض : فقال : لا إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكره لذلك، فنزل في الرحبة وصلَّى بالجامع الأعظم ركعتين ثم خطب الناس فحثهم على الخير، ونهاهم عن الشر ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه،..
ثم بعث إلى جرير بن عبد الله، وكان على همدان من زمان عثمان، وإلى الأشعث بن قيس وهو على نيابة أذربيجان من أيام عثمان يأمرهما أن يأخذا البيعة له على من هنالك ثم يُقبلا إليه، ففعلا ذلك، ...
فلما أراد علي أن يبعث إلى معاوية يدعوه إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلي : أنا ذاهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنَّ بيني وبينه وُدَّاً، فآخذ لك البيعة منه، ..
فقال الأشتر : لا تبعثه يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن يكون هواه معه. فقال علي : دعه،
فبعثه وكتب معه كتاباً إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمَّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب، ...
وطلب معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام، فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم.
فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال الأشتر: ألم أَنْهك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا ً؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية باباً إلا أغلقته.
فقال له جرير: لو كنت (*ذهبت)لقتلوك بدم عثمان.
فقال الأشتر: والله لو بعثتني لم يعنني جواب معاوية ولأعجلنَّه عن الفكرة ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين، لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمَّة.
فقام جرير مغضباً فأقام بقرقيسياء وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وقيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه .... (*6)
وهكذا كان الأشتر سبباً في إبعاد الصحابي جرير بن عبد الله، الذي كان والياً على قرقيسياء وعلى غيرها ورأساً في قبيلته بجيلة، وأضطره إلى مفارقة أمير المؤمنين علي،
وهذا الصحابي جرير بن عبد الله البجلي قال: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي، وقال صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة مَلَكَ .....(*7)
--------------------------------------------------------------------
مسيرة أمير المؤمنين علي إلى الشام
استعد أمير المؤمنين علي لغزو الشام، فبعث يستنفر الناس، وجهز جيشاً ضخماً اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات ضعيفة ، إلا رواية واحدة حسنة الإسناد ذكرت أنه سار في خمسين ألفاً ، وكان مكان تجمع جند أمير المؤمنين بالنخلة ، وهو على ميلين من الكوفة آنذاك فتوافدت عليه القبائل من شتى أقليم العراق ، ...(*8 ؛9؛10؛11)
واستعمل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أبا مسعود الأنصاري،
وبعث من النخيلة زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف مقاتل، وبعث شريح بن هاني في أربعة آلاف، ثم خرج علي رضي الله عنه بجيشه إلى المدائن( قرب بغداد) فانضم إليه من فيها من المقاتلة، وولى عليها سعد بن مسعود الثقفي، ووجه منها طليعة في ثلاثة آلاف إلى الموصل ،..(*12)
وسلك علي رضي الله عنه طريق الجزيرة الرئيسي على شط الفرات الشرقي حتى بلغ قرب قرقيسياء ، فأتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم علي رضي الله عنه إلى الرقة ، وعبر منها الفرات غرباً ونزل على صفين ....(*13؛*14؛*15)
--------------------------------------------------------------------
خروج معاوية إلى صفين
كان معاوية جادَّاً في مطاردة قتلة عثمان رضي الله عنه فقد استطاع أن يترصد بجماعة ممن غزوا المدينة من المصريين أثناء عودتهم وقتلهم ومنهم : أبو عمرو بن بديل الخزاعي ،.. ......(*16)
ثم كانت له أيد في مصر، وشيعة في أهل (خربتا) تطالب بدم عثمان رضي الله عنه، وقد استطاعت هذه الفرقة من إيقاع الهزيمة بمحمد بن أبي حذيفة في عدة مواجهات عام 36هـ، ... .
كما استطاع أيضاً أن يوقع برؤوس مدبري ومخططي غزو المدينة من المصريين مثل عبد الرحمن بن عديس، وكنانة بن بشر، ومحمد بن حذيفة فحبسهم في فلسطين، وذلك في الفترة التي سبقت خروجه إلى صفين، ثم قتلهم في شهر ذي الحجة عام 36هـ ، .. .....(*17)
وعندما علم معاوية بتحرك جيش العراق نحو صفين جمع مستشاريه من أعيان أهل الشام، وخطب فيهم وقال: إن عليَّاً نهد إليكم في أهل العراق،.. فقال ذو الكلاع الحميري: عليك أم رأي وعلينا أم فعال .....(*18)
وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان رضي الله عنه والقتال ، .... (*19)
وقد قام عمرو بن العاص رضي الله عنه بتجهيز الجيش وقاد الألوية، وقام في الجيش خطيباً يحرضهم، فقال:
《إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم إن أهل البصرة المخالفين لعلي قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل،...
وإنما سار في شرذمة قليلة ومنهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تبطلوه 》...(*20)
وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره وكلها روايات منقطعة أسانيدها، وهي عين الروايات التي قدرت جيش علي رضي الله عنه، فقدر بمائة ألف وعشرين ألفاً ،..(*21) وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر من ذلك بكثير إلا أن الأقرب للصواب أنهم ستون ألف مقاتل،...(*22)
فهي وإن كانت منقطعة الإسناد إلا أن راويها صفوان بن عمرو السكسي، حمصي من أهل الشام ولد عام ((72هـ)) وهو ثبت ثقة، وقد أدرك خلقا ممن شهد صفين، كما تبين من دراسة ترجمته ، والإسناد إليه صحيح ، ....(*23؛*24)
وكان قادة جيش معاوية على النحو التالي :
- عمرو بن العاص، على خيول أهل الشام كلها،
- والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم،
- وذو الكلاع الحميري على ميمنة الجيش،
- وحبيب بن مسلمة على ميسرة الجيش،
- وأبو الأعور السلمي على المقدمة،
هؤلاء هم القادة الكبار وتحت كل قائد من هؤلاء قادة وزعوا على حسب القبائل، وكان هذا الترتيب عند مسيرهم إلى صفين، ولكن أثناء الحرب تغير بعض القادة وظهر قادة آخرين مما اقتضته الظروف، ولعل هذا يكون السبب في اختلاف أسماء القادة في بعض المصادر . ...(*25)
وبعث معاوية أبا الأعور السلمي مقدمة للجيش، وكان خط سيرهم إلى الشمال الشرقي من دمشق، ولما بلغ صفين أسفل الفرات، عسكر في مكان سهل فسيح، إلى جانب شريعة ماء في الفرات، ليس في ذلك المكان شريعة غيرها وجعلها في حيزه .......(*26)
--------------------------------------------------------------------
(*1) تهذيب تاريخ دمشق (4/39) خلافة علي، لعبد الحميد صـ 110 .
(*2) البداية والنهاية (7/240) .
(*3)البداية والنهاية (7/240 ، 241) .وانظر علي بن أبي طالب للصَّلاَّبيِّ (1/498 إلى 624) .
(*4) مروج الذهب (2/360) .
(*5) التاريخ الصغير للبخاري (1/102) .
(*6) البداية والنهاية (7/265) .
(*7) مسلم رقم 2475 .
(*8) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2/630) .
(*9) تاريخ خليفة صـ 193 بسند حسن .
(*10) النخلة : موقع قرب الكوفة من جهة الشام ، معجم البلدان (5/278) .
(*11) خلافة علي بن أبي طالب ، لعبد الحميد صـ 188 .
(*12) تاريخ الطبري (5/603) بسند منقطع .
(*13) قرقيسياء : بلد يقع على نهر الخابور عند مصبه في الفرات ، معجم البلدان (4/328) .
(*14) الرقة : مدينة مشهورة ـ في سوريا اليوم ـ على نهر الفرات الشرقي معجم البلدان (3/153) .
(*15) تاريخ الطبري (5/604) .
(*16) المحن لأبي العرب التميمي صـ 124 ، خلافة علي لعبد الحميد صـ 191 .
(*17) خلافة علي ، لعبد الحميد صـ 191 .
(*18) الإصابة (1/480) خلافة علي بن أبي طالب ، عبد الحميد صـ 192 .
(*19) أنساب الأشراف (2/52) بسند منقطع ، وخلافة علي صـ 192 .
(*20) تاريخ الطبري (5/601) بسند منقطع .
(*21) خلافة علي بن أبي طالب ، عبد الحميد صـ 194 ، (*22) المعرفة والتاريخ (3/313) .
(*23) سير أعلام النبلاء (6/380) .
(*24) خلافة علي بن أبي طالب ، عبد الحميد صـ 194 .
(*25) امتداد العرب في صدر الإسلام ، صالح العلي ، خلافة علي صـ 194 .
(*26) صفين لنصر بن مزاحم صـ 160 ـ 161 .
☆ الدولة الأموية - على الصلابي ص 84 - 82
-------------------------------------------------------------------
أحداث صفين : القتال على الماء -محاولة الصلح - نشوب القتال- ليلة الهرير ويوم الجمعة - الدعوة للتحكيم.
تابعونا #الدولة_الأموية_جواهر [13]
إرسال تعليق