تاريخ الدولة الأموية (14)
الموادعة بينهما ومحاولات الصلح
في سنة 37 هـ بعد أن أخفقت المراسلات في الصلح بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب و معاوي بن ابي سفيان رضي الله عنهما ؛ جهز كل منهما جيشا من أهل العراق ومن أهل الشام و من إنضم إليهما من الصحابة وأهل الحجاز واليمن .
خرج على رضي الله عنه بجيشه من الكوفة ثم النخيلة بالعراق قاصدا الشام وخرج معاوية بجيشه من دمشق متجها الى الشرق حتى نزل بسهل صفين على نهر الفرات شرق سورية و عسكر بالسهل.
ويعلق د. راغب السرجاني على ذلك قائلا:
《كان تعداد جيش علي بن أبي طالب رضى الله عنه مائة وعشرين ألفًا، وجمع معاوية رضى الله عنه من أهل الشام وحدهم تسعين ألفًا،
وهي أرقام ضخمة لم تصل إليها جيوش المسلمين من قبل، فقد كان تعداد المسلمين في اليرموك ستة وثلاثين ألفًا، وفي القادسية ثمانية وثلاثين ألفًا، بينما هم اليوم في صفين مائتان وعشرة آلاف، وكلهم من المسلمين، 》*قصة الإسلام
-------------------------------------------------------------------
القتال على الماء
وصل جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى صفين، حيث عسكر معاوية، ولم يجد موضعاً فسيحاً سهلاً يكفي الجيش، فعسكر في موضع وعر نوعاً ما إذ أغلب الأرض صخور ذات كدى وأكمات ، ..(*1)
ففوجيء جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، .. (*2)
فهرع البعض إلى علي رضي الله عنه يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل علي إلى الأشعث ابن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بين الفريقين، انتصر فيها الأشعث واستولى على الماء ،...
إلا أنه قد وردت رواية تنفي وقوع القتال من أصله مفادها : أن الأشعث بن قيس جاء إلى معاوية فقال : الله الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ! هبوا إنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟ إن الله يقول: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) الحجرات 9
قال معاوية : فما تريد؟ قالوا خلوا بيننا وبين الماء، فقال لأبي الأعور : خل بين إخواننا وبين الماء ، ...(*3)
------------------
ويقول د. راغب هنا :
《وبعد تشاور، وتباحث بين الفريقين اتفقوا على أن يشرب الجميع من الماء دون قتال.
فكان ديدنهم -سبحان الله- أن يقاتلوا حتى إذا كفّ القتال، ذهبوا جميعًا، فشربوا من الماء دون أن يتقاتلوا عند الماء، ثم يأخذ كل فريق قتلاه من ساحة المعركة، فيدفنوهم، ويصلّون عليهم، وهكذا كل يوم.》* قصة الإسلام
-------------------
وقد كان القتال على الماء في أول يوم تواجها فيه في بداية شهر ذي الحجة فاتحة شر على الطرفين من المسلمين، إذا استمر القتال بينهما متواصلاً طوال هذا الشهر،
وكان القتال على شكل كتائب صغيرة، فكان علي رضي الله عنه يخرج من جيشه كتيبة صغيرة يؤمر عليها أميراً، فيقتتلان مرة واحدة في اليوم في الغداة أو العشي، وفي بعض الأحيان يقتتلان مرتين في اليوم،
وكان أغلب من يخرج من أمراء الكتائب في جيش علي، الأشتر، وحجر بن عدي وشبت بن ربعي، وخالد بن المعتمر، ومعقل بن يسار الرياحي،
ومن جيش معاوية أغلب من يخرج، حبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو الأعور السلمي، وشرحبيل بن السمط
وقد تجنبوا القتال بكامل الجيش خشية الهلاك والاستئصال، وأملاً في وقوع صلح بين الطرفين تصان به الأرواح والدماء ......(*4)
--------------------------------------------------------------------
الموادعة بينهما ومحاولات الصلح
ما إن دخل شهر المحرم، حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة، طمعاً في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم ولكن المعلومات عن مراسلات هذه الفترة ـ شهر المحرم ـ وردت من طرق ضعيفة ، مشهورة إلا أن ضعفها لا ينفي وجودها. ....(*5)
كان الباديء بالمراسلة، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأرسل بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني وشبت بن ربعي التميمي إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه كما دعاه من قبل إلى الدخول في الجماعة والمبايعة...
فرد معاوية عليه برده السابق المعروف، بتسليم قتلة عثمان أو القود منهم أولاً، ثم يدخل في البيعة، وقد تبين لنا موقف علي من هذه القضية ، ...(*6)
كما أن قُرَّاء الفريقين قد عسكروا في ناحية من صفين، وهم عدد كبير، قد قاموا بمحاولات للصلح بينهما، فلم تنج تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه (*7)
وقد حاول اثنان من الصحابة وهما أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما الصلح بين الفريقين، فلم تنجح مهمتهما، فتركا الفريقين ولم يشهدا معهما أمرهما ، ...(*8)
وكذلك حضر مسروق بن الأجدع أحد كبار التابعين وخطب الناس في محاولة منه لرأب الصدع بينهم فقال: أيها الناس أنصتوا ثم قال: أرأيتم لو أن منادياً ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عما أنتم فيه، أكنتم مطيعيه، قالوا : نعم !....
قال : فوالله لقد نزل بذلك جبرائيل على محمد.. فما زال يأتي من هذا. ثم تلا :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رحيماً )النساء 29 -- ثم أنساب في الناس فذهب .(*9)
وقد انتقد ابن كثير التفصيلات الطويلة التي جاءت في روايات أبي مخنف ونصر بن مزاحم، بخصوص المراسلات بين الطرفين فقال:
《... ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك - عنهم وعنه - نظر،...
فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقص فيه معاوية وأباه، وأنهم إنما دخلوا في الإسلام ولم يزلا في تردد فيه، وغير ذلك وأنه قال في غضون ذلك؟ لا أقول إن عثمان قُتل مظلوماً ولا ظالماً، وهذا عندي لا يصح من علي رضي الله عنه . 》..(*10)
-------------------------------
نشوب القتال
عادت الحرب على ما كانت عليه في شهر ذي الحجة من قتال الكتائب والفرق والمبارزات الفردية، خشية الإلتحام الكلي إلى أن مضى الأسبوع الأول من شهر، وكان عدد الوقعات الحربية بين الفريقين إلى هذا التاريخ أكثر من سبعين وقعة وذكر أنها تسعون ، ..(*11)
إلا أن علياً (ر) أعلن في جيشه أن غداً الأربعاء سيكون الالتحام الكلي لجميع الجيش، ثم نبذ إلى معاوية يخبره بذلك ،..(*12)
فثار الناس في تلك الليلة إلى أسلحتهم يصلحونها ويحدونها وقام عمرو بن العاص بإخراج الأسلحة من المخازن لمن يحتاج من الرجال ممن فل سلاحه، وهو يحرض الناس على الاستبسال في القتال ...(*13) ؛ وبات جميع الجيش في مشاورات وتنظيم للقيادات والألوية ....(*14)
----------------------------
1 ـ اليوم الأول :
أصبح الجيشان في يوم الأربعاء قد نظمت صفوفهم ووزعوا حسب التوزيع المتبع في المعارك الكبرى، قلب، وميمنة، وميسرة، فكان جيش علي رضي الله عنه على النحو التالي :
علي بن أبي طالب على القلب،
وعبد الله بن عباس على الميسرة،
وعمّار بن ياسر على الرجالة،
ومحمد بن الحنفية حامل الراية
وهشام بن عتبة (المرقال) حامل اللواء،
والأشعث بن قيس على الميمنة. ... ... (*15)
وأما جيش الشام، فكان :
معاوية في كتيبة الشهباء أصحاب البيض والدروع على تل مرتفع وهو أمير الجيش،
وعمرو بن العاص قائد خيل الشام كلها،
وذو الكلاع الحميري على الميمنة على أهل اليمن،
وحبيب بن مسلمة الفهري على الميسرة على مضر
والمخارق بن الصباح الكلاعي حامل اللواء ، ... ...(*16)
وتقابلت الجيوش الإسلامية ومن كثرتها قد سدت الأفق، ويقول كعب بن جعيل التغلبي أحد شعراء العرب....(*17)
وذلك عندما رأى الناس في ليلة الأربعاء وقد ثبتوا إلى نبالهم وسيوفهم يصلحونها استعداداً لهذا اليوم :
أصبحت الأمة في أمر عجب
والملك مجموع غداً لمن غلب
فقلت قولاً صادقاً غير كذب
إن غداً تهلك أعلام العرب ...(*18)
وتذكر بعض الروايات الضعيفة أن علياً خطب في جيشه، وحرضهم على الصبر والإقدام والإكثار من ذكر الله ...(*19)
وتذكر أيضاً أن عمرو بن العاص، قد استعرض جيشه، وأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها ، ...(*20)
وهذه الروايات لا يوجد مانع من الأخذ بها، لأن كل قائد يحرض جيشه ويحمسه، ويهتم بكل ما يؤدي به إلى النصر....
وألتحم الجيشان في قتال عنيف، استمر محتدماً إلى غروب الشمس لا يتوقف إلا لأداء الصلاة، يصل كل فريق في معسكره وبينهما جثث القتلى في الميدان تفصل بينهما،
وسأل أحد أفراد جيش على رضي الله عنه حين إنصرافه من الصلاة، فقال : ما تقول في قتلانا وقتلاهم يا أمير المؤمنين؟ فقال :
《من قتل منا ومنهم يريد وجه الله والدار الآخرة دخل الجنة 》... (*21)
وقد صبر بعضهم على بعض فلم يغلب أحد أحداً، ولم ير مولياً حتى إنتهى ذلك اليوم. وفي المساء خرج علي رضي الله عنه إلى ساحة القتال فنظر إلى أهل الشام، فدعا ربه قائلاً: اللهم أغفر لي ولهم .......(*22)
-----------------------------
2 ـ اليوم الثاني
في يوم الخميس تذكر الروايات أن علياً رضي الله عنه قد غلس بصلاة الفجر واستعد للهجوم، وغير بعض القيادات، فوضع عبد الله بن بديل الخزاعي على الميمنة بدلاً من الأشعث بن قيس الكندي الذي تحول إلى الميسرة ،..(*23)
وزحف الفريقان نحو بعضهما واشتبكوا في قتال عنيف أشد من سابقه، وبدأ أهل العراق في التقدم وأظهروا تفوقاً على أهل الشام واستطاع عبد الله بن بديل أن يكسر ميسرة معاوية وعليها حبيب بن مسلمة ويتقدم باتجاه كتيبة معاوية (الشهباء) وأظهر شجاعة وحماساً منقطع النظير، ..
وصاحب هذا التقدم الجزئي، تقدم عام لجيش العراق، حتى أن معاوية، قد حدثته نفسه بترك ميدان القتال، إلا أنه صبر.....(*24)
واستحث كتيبته الشهباء واستطاعوا قتل عبد الله بن بديل، فأخذ مكانه في قيادة الميمنة الأشتر ...
وتماسك أهل الشام وبايع بعضهم على الموت، وكروا مرة أخرى بشدة وعزيمة وقتل عدد من أبرزهم ذو الكلاع، وحوشب وعبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وإنقلب الأمر لجيش الشام، وأظهر تقدماً، وبدأ جيش العراق في التراجع، ...
واستحر القتل في أهل العراق، وكثرت الجراحات ولما رأى علي جيشه في تراجع، أخذ يناديهم ويحمسهم، وقاتل قتالاً شديداً واتجه إلى القلب حيث ربيعة، فثارت فيهم الحمية وبايعوا أميرهم خالد بن المعمر على الموت وكانوا أهل قتال ........(*25)
وكان عمّار بن ياسر رضي عنه قد جاوز الرابعة والتسعين عاماً، وكان يحارب بحماس، يحرض الناس، ويستنهض الهمم ولكنه بعيد كل البعد عن الغلو، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام، فنهاه عمار عن ذلك وقال:
《 إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلاهنا واحد ونبينا واحد وقبلتنا واحدة .》...(*26)
ولما رأى عمار رضي الله عنه تقهقر أصحابه، وتقدم خصومه، أخذ يستحثهم ويبين لهم أنهم على الحق ولا يغرنهم ضربات الشاميين الشديدة،..
فيقول رضي الله عنه :
《من سره أن تكتنفه الحور العين فليقدم بين الصفين محتسباً، فإني لأرى صفاً يضربكم ضرباً يرتاب منه المبطلون والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبغلوا منا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل لعلمنا أن مصلحينا على الحق وأنهم على الباطل》...(*27)
ثم أخذ في التقدم، وفي يده الحربة ترعد ـ لكبر سنه ـ ويشتد على حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ويستحثه في التقدم ويرغبه ويطمعه فيما عند الله من النعيم، ويطمع أصحابه أيضاً فيقول :
《 أزفت الجنة وأزينت الحور العين، من سره أن تكتنفه الحور العين، فليتقدم بين الصفين محتسباً 》
وكان منظرا مؤثرا فهو صحابي جليل مهاجري بدري جاوز الرابعة والتسعين يمتلك كل هذا الحماس وهذا العزم والروح المعنوية العالية واليقين الثابت، فكان عاملاً هاماً من عوامل حماس جيش العراق ورفع روحهم المعنوية مما زادهم عنفاً وضراوة وتضحية في القتال حتى استطاعوا أن يحولوا المعركة لصالحهم ..
وتقدم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وهو يرتجز بقوله :
أعور يبغي أهله مَحَلاَّ ** قد عالج الحياة حتى ملاَّ
لا بد أن يَفُلّ أو يُفَلاَّ ..... ...(*28)
وعمار يقول : تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل ، ...... (*الأسل : الرماح) .
وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين
اليوم ألقى الأحبة محمّداً وحزبه ....(*29)
وعند غروب الشمس ذلك اليوم الخميس، طلب عمار شربة من لبن ثم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن ....(*30)
ثمّ تقدم واستحث معه حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري فلم يرجعا وقتلا رحمهما الله رضي الله عنهما.....(*31)
--------------------------------
3 ـ ليلة الهرير ويوم الجمعة
عادت الحرب في نفس الليلة بشدة وإندفاع لم تشهدها الأيام السابقة وكان اندفاع أهل العراق بحماس وروح عالية حتى أزالوا أهل الشام عن أماكنهم، وقاتل أمير المؤمنين علي قتالاً شديداً وبايع على الموت...(*32) ،
وذكر أن علياً رضي الله عنه صلى بجيشه المغرب صلاة الخوف ، ...(*33)
وقال الشافعي : وحفظ عن علي(ر) أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير ، (*34)
يقول شاهد عيان :
《 إقتتلنا ثلاثة أيام وثلاثة ليالي حتى تكسرت الرماح ونفدت السهام ثم صرنا إلى المسايفة فأجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نعانق بعضنا بعضا ...
ولما صارت السيوف كالمناجل تضاربنا بعمد الحديد فلا تسمع إلا غمغمة وهمهمة ؛ القوم ثم ترامينا بالحجارة وتحاثينا بالتراب وتعاضينا بالأسنان وتكادمنا بالأفواه ...
إلى أن أصبحوا في يوم الجمعة وارتفعت الشمس وإن كانت لا ترى من غبار المعركة وسقطت الألوية والرايات وأنهك الجيش التعب وكلت الأيدي وجفت الحلوق ....(*35)
ويقول ابن كثير في وصف ليلة الهرير ويوم الجمعة :
《 وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان وكل واحد منهما ليهمر على الآخر، ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا فإنا لله وإنا إليه لراجعون...
ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماؤهم في القتال حتى تضاحا النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام 》..(*36)
----------------------------------
4 ـ الدعوة إلى التحكيم :
إن ما وصل إليه حال الجيشين بعد ليلة الهرير لم يكن يحتمل مزيد قتال، وجاءت خطبة الأشعث بن قيس زعيم كندة أصحابه ليلة الهرير فقال :
《 قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا قط،...
ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إن نحن توافقنا غداً إنه لفناء العرب، وضيعة الحرمان، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحرب، ولكن رجل مسن،وأخاف على النساء والذراري غداً إذا نحن فنينا اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ》...(*37)
وجاء خبر ذلك إلى معاوية فقال :
《 أصاب ورب الكعبة، لئن نحن إلتقينا غداً لتميلين الروم على ذرارينا ونسائنا ولتميلين أهل فارس على أهل العراق وذراريهم وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى ثم قال لأصحابه : اربطوا المصاحف على أطراف القنا 》.(*38)
وهذه رواية عراقية لا ذكر فيها لعمرو بن العاص ولا للمخادعة والاحتيال وإنما كانت رغبة كلا الفريقين، ...
ولن يضير معاوية أو عمرو بشيء أن تأتى أحدهم الشجاعة فيبادر بذلك وينقذ ما تبقى من قوى الأمة المتصارعة..
إنما يزعج ذلك أعداء الأمة الذين أشعلوا نيران هذه الفتنة، وتركوا لنا ركاماً من الروايات المضللة بشأنها، تحيل الحق باطلاً، وتجعل فضل المناداة بتحكيم القرآن لصون الدماء المسلمة جريمة ومؤامرة وحيلة ...(*39)
ونسبوا لأمير المؤمنين علي أقوالاً مكذوبة تعارض ما في الصحيح على أنه قال: (إنهم ما رفعوها، ثم لا يرفعونها، ولا يعملون بما فيها، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدة ،... (*40)
ومن الشتائم قولهم عن رفع المصاحف إنها مشورة ابن العاهرة )....(*41)
ووسّعوا دائرة الدعاية المضادة على عمرو بن العاص رضي الله عنه حتى لم تعد تجد كتاباً من كتب التاريخ إلا فيه انتقاصا لعمرو بن العاص وأنه مخادع وماكر بسبب الروايات الموضوعة التي لفقها أعداء الصحابة الكرام، ونقلها الطبري، وابن الأثير وغيرهم، فوقع فيها كثير من المؤرخين المعاصرين مثل :
حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام،
ومحمد الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية،
وعبد الوهاب النجار في تاريخ الخلفاء الراشدون
وغيرهم كثير، مما ساهم في تشوية الحقائق التاريخية الناصعة.
إن رواية أبي مخنف تفترض أن علياً رفض تحكيم القرآن لما اقترحه أهل الشام، ثم استجاب بعد ذلك له تحت ضغط القراء الذين عرفوا بالخوارج فيما بعد ، ..(*42)
وهذه الرواية تحمل سباً من علي لمعاوية وصحبه يتنزه عنه أهل ذاك الجيل المبارك فكيف بساداتهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي، ويكفي للرواية سقوطاً أن فيها أبا مخنف الرافضي المحترق، ...
فهي رواية لا تصمد للبحث النزيه ولا ما يرويه الأمام أحمد بن حنبل عن طريق حبيب بن أبي ثابت قال :
《 أتيت أبا وائل ـ أحد رجال علي بن أبي طالب ـ فقال: كنا بصفين، فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية : أرسل إلى علي المصحف، فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، ...
فجاء به رجل فقال : بيننا وبينكم كتاب الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)آل عمران 23 ...
فقال علي: نعم، أنا أولى بذلك، فقام القُراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج، بأسيافهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نمشي إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟.. 》(*43)
فبماذا رد عليهم علي رضي الله عنه ؟!
ولنكمل رواية الإمام ابن حنبل و حديثنا في الفقرة القادمة إن شاء الله .
--------------------------------------------------------------------
(*1)خلافة علي بن أبي طالب ، لعبد الحميد صـ 196 .
(*2) مصنف ابن أبي شيبة (15/294) بسند حسن .
(*3)سير أعلام النبلاء (2/41) مرويات أبي مخنف صـ296 .
(*4) خلافة علي بن أبي طالب ، لعبد الحميد صـ197 ، 198 ، تاريخ الطبري (5/614) ، البداية والنهاية (7/266) .
(*5) تاريخ الطبري (5/612 ، 613) خلافة علي بن أبي طالب صـ119 .
(*6) تاريخ الطبري (5/613) خلافة علي بن أبي طالب صـ199 .
(*7) المصدر نفسه (5/614) .
(*8) البداية والنهاية (7/270) .
(*9) الطبقات (6/78) ، القرّاء دورهم في الحياة العامة في صدر الإسلام والخلافة الأموية ، هادي حسين حمود .
(*10) البداية والنهاية (7/269) .
(*11) الأنباء بتواريخ الخلفاء صـ59 ، شذرات الذهب (1/45) .
(*12)البداية والنهاية (7/273) .
(*13) سنن سعيد بن منصور (2/240) ضعيف .
(*14) علي بن أبي طالب للصَّلاَّبي (2/635) .
(*15) تاريخ خليفة بن خياط صـ193 بسند حسن إلى شاهد عيان .
(*16) المصدر نفسه صـ193 .
(*17) الأعلام للزركلي (6/180) .
(*18) البداية والنهاية (7/273) ، تاريخ الطبري (5/626) .
(*19) تاريخ الطبري (5/622) من طريق أبي محنف .
(*20) الطبقات (4/255) من طريق الواقدي .
(*21) سنن سعيد بن منصور (2/344 ـ 345) بسند ضعيف .
(*22)مصنف ابن أبي شيبة (15/297) بسند صحيح .
(*23) تاريخ الطبري (5/630) .
(*24) تاريخ الطبري (5/636).
(*25) الإصابة (1/454) ، أنساب الأشراف (2/56) بسند حسن إلى قتادة .
(*26) مصنف ابن أبي شيبة (15/290) الإسناد حسن لغيره .
(*27) مجمع الزوائد (7/243) ، خلافة علي بن أبي طالب ، عبد الحميد صـ 219 إسناده حسن .
(*28) تاريخ الطبري (5/652) .
(*29) تاريخ الطبري (5/652) .
(*30) مصنف ابن أبي شيبة (15/302 ، 303) . بسند منقطع .
(*31) تاريخ الطبري (5/652) .
(*32) المستدرك (3/402) قال الذهبي ضعيف ، خلافه علي صـ 226 .
(*33) سنن الكبرى للبيهقي (3/252) قال الألباني رواه البيهقي بصيغة التمريض إرواء الغليل (3/42) .
(*34) تلخيص الحبير (2/78) ، خلافة علي بن أبي طالب صـ 227 .
(*35) شذرات الذهب (1/45) ، وقعة صفين صـ 369 .
(*36) البداية والنهاية (7/283) .
(*37) وقعه صفين للمتفري صـ 479 .
(*38 المصدر نفسه صـ (481 ـ 884) .
(*39) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين صـ 316 .
(*40) الكامل (2/386) .
(*41) المصدر نفسه (5/662 ، 663) .
(*42) المصدر نفسه (5/662 ، 663) .
(*43) مصنف أبي شيبة (8/336) ، مسند أحمد مع الفتح الرباني (8/483) .
☆ الدولة الأموية للصلابي ص91-85
--------------------------------------------------------------------
تابعونا ----
إرسال تعليق