تاريخ السلاجقة والدانشمند ... (19)
-------------------------------------------------------------------
تحدثنا فيما سبق عن الوزير السلجوقي نظام الملك و عن كتابه (سياست نامه) و عن دوره الكبير في حفظ و تقدم دولة السلاجقة و في إظهار قوتها .
وإضافة لما سبق كان لنظام الملك دور هام في إصلاح الأراضي الزراعية، وتنظيم توزيعها، ولما اتسعت رقعت الدولة السلجوقية في عهد نظام الملك لاحظ أن دخل الدولة من خراج الأراضي الزراعية قليل لحاجتها إلى الإصلاح، فضلاً عن عدم اهتمام الولاة بها ،
فوجد أنه من الأصلح للدولة أن توزع النواحي على شكل أقطاعات على رؤساء الجند، على أن يدفع كل مقطع مبلغاً من المال لخزينة الدولة مقابل استثماره للأراضي التي أقعطت له، فكان هذا الأجراء سبباً في تنمية الثروة الزراعية إذ أهتم المقطعون بعمارتها مما أدى إلى زيادة انتاجها، وظل هذا النظام قائماً حتى زالت الدولة السلجوقية .
وكذلك طلب الوزير نظام الملك من العمال والولاة أن يكونوا على صلة تامة بالمزارعين، ويتفقدوا أحوالهم، ويمدوا لهم يد المساعدة بتزويد من يحتاج منهم بالبذور والدواب، وأن يحسنوا معاملة الزراع، حتى لا يضطروا إلى هجر مواطنهم .
كما اختار أن تكون تلك الاقطاعيات مستقلة بتنظيم أحوالها حتى لاتشغل الحكومة المركزية بنزاعاتها و مشاكلها و لتستطيع الوقوف في وجه من يحاول الاعتداء عليها، كما أن سكن تلك الجماعات من العسكر وذويهم في أراضي زراعية محددة يدفعها إلى استصلاح الأرض وزراعتها والاستفادة من خيراتها، فتزدهر الزراعة .
و كان للوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي اهتمام كبير بالمنشآت المدنية، وخاصة دور العباد، فبنى كثيراً من المساجد في مختلف البلاد الخاضعة للسلاجقة ، كما اهتم بعمارة الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة النبوية، وأقام العديد من الرباطات بالعراق وفارس للعباد والزهاد وأهل الصلاح والفقراء، ورتب لهم ما يحتاجون إليه من غذاء وكساء ، وبنى الوزير نظام الملك مارستان بمدينة نيسابور .
وقد بذل الوزير نظام الملك جهداً واضحاً للنهوض بالحركة العلمية والأدبية وكان محباً لأهل العلم، كثير الإحسان إليهم، حتى أنه رتب للعلماء رواتب ثابتة تصرف لهم بانتظام ، وكان يقوم بصرف مرتبات ثابتة لأثنى عشر ألف رجل من رجال العلم في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية ..
وكان مجلس الوزير نظام الملك يضم فحول العلماء في شتى فنون المعرفة، وقام، بإنشاء المكتبات وزودها بالكتب، فكانت سوق العلم في أيامه، كما يقول ابن الجوزي قائمة والعلماء في عهده مرفوعي الهامة ،
وقام بتأسيس المدارس النظامية، وقد انتشرت في كل من بغداد والبصرة والموصل وأصفهان وآمل وطبرستان ومرو ونيسابور وهراة وبلغ ، وقام نظام الملك بإنشاء هذه المدارس في عهد السلطان السلجوقي ألب أرسلان
و كان رحمه الله يحب العلم وخصوصاً الحديث، شغوفاً به وكان يقول : إني أعلم بأني لست أهلاً للرواية ولكني أحب أن أربط في قطار نقلة حديث رسول الله ،
قال عنه ابن الأثير :
[ وأما أخباره، فإنه كان عالماً، ديناً وجواداً عادلاً، حليماً، كثير الصفح عن المذنبين، طويل الصمت، كان مجلسه عامراً بالقّراء، والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح كان من حفظة القرآن، ختمه وله إحدى عشرة سنة واشتغل بمذهب الشافعي،...
وكان لا يجلس إلا على وضوء، وما توضأ إلا تنفَّل ، وإذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة،...
وكان إذا غفل المؤذن ودخل الوقت أمره بالآذان، وهذا قمة حال المنقطعين للعبادة في حفظ الأوقات، ولزوم الصلوات وكانت له صلة بالله عظمية، وكان يواظب على صيام الاثنين والخميس، وله الأوقاف الدّارة الصدقات الباّرة ...]
وفاته 485 ﻫ
في عام 485 ﻫ يوم الخميس العاشر من شهر رمضان وحان وقت الإفطار، صلّى نظام الملك المغرب، وجلس على السَّماط، وعنده خلق كثير من الفقهاء والقّراء والصوفية، وأصحاب الحوائج ...
فجعل يذكر شرف المكان الذي نزلوه من أراضي نهاوند، وأخبار الوقعة التي كانت بين الفرس والمسلمين، في زمان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن استشهد هناك من الأعيان، ويقول : " طوبى لمن لحق بهم "
فلما فرغ من إفطاره، خرج من مكان قاصداً مضرب حرمه فبدر إليه حدث ديلمّي، كأنه مُستميح أو مستغيث، فعلق به وضربه، وحمل إلى مضرب الحرم، فيقال : إنه أول مقتول قتلته الإسماعيلية " الباطنية" ، فأنبث الخبر في الجيش وصاحت الأصوات، وجاء السلطان ملكشاه حين بلغه الخبر، مظهراً الحزن، والنحيب والبكاء وجلس عند نظام الملك ساعة، وهو يجود بنفسه حتى مات،
فعاش سعيداً فقيداً حميداً ،
وكان قاتله قد تعثر بأطناب الخيمة، فلحقه مماليك نظام الملك وقتلوه
وقال بعض خدامه : كان آخر كلام نظام الملك أن قال : لا تقتلوا قاتلي، فإني قد عفوت عنه وتشهد ومات ..
ولما بلغ أهل بغداد موت نظام الملك حزنوا عليه وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلاثة أيام ورثاه الشعراء بقصائد عدة.
قال عنه ابن عقيل : بهر العقول سيرة النظام جوداً وكرماً وعدلاً وإحياء لمعالم الدين، كانت أيامه دولة أهل العلم، ثم ختم له بالقتل وهو مارُّ إلى الحج في رمضان فمات ملكاً في الدنيا ملكاً في الآخرة رحمه الله ، وقيل إن قلته كان بتدبير السلطان، فلم يُمهل بعده إلا نحو شهر .
---------------------------------------------------------------------
دولة السلاجقة في عهد التفكك والضعف والإنهيار
بعد وفاة السلطان ملكشاه تفككت الدولة السلجوقية وبدأت عوامل الضعف والانهيار تدب في أوصالها بين أبنائه وإخوته وأحفاده، فضعفت بالتالي سيطرة الدولة على مختلف أقاليمها
ومن الأسباب التي أدت إلى هذا الضعف تنافس الأمراء على عرش السلطنة، الأمر الذي أحدث انقساماً كبيراً وبصفة خاصة بين بركياروق الأبن الأكبر لملكشاه وأخيه الأصغر محمود،
وكان لكل منهم مؤيدين وموازرين فكان يؤيد بركيارق نظام الملك قبل وفاته ومن بعده أبناؤه وأتباعه وأفراد أسرته في حين أن محمود كانت أمه تركان خاتون ، تقف إلى جانبه والوزير تاج الملك الشيرازي الذي أتى خلفا لنظام الملك،
وانقسم السلاجقة إلى فريقين متنازعين كل منهما يجاهر بالعداء للآخر للوصول إلى عرش السلطنة
وقد استطاعت تركان خاتون بالاتفاق والتدبير مع تاج الملك إخفاء نبأ وفاة السلطان ملكشاه حتى يتسنى لها أن ترتب أمورها وحتى تتم البيعة لابنها محمود الذي كان يبلغ من العمر وقتئذ أربع سنوات وشهور ، وكان عند وفاة أبيه في بغداد،
أما بركيارق فكان في الثالثة عشرة من عمره عندما مات أبوه وكان حينئذ في أصفهان .
-------------
اعتراف الخليفة العباسي بمحمود بن ملكشاه سلطاناً
كانت الظروف في صالح محمود في أول الأمر، وقد بايعه العسكر لأمور أحدها أن أمه " تركان خاتون " كانت مستولية ومسيطرة على الأمور في أيام السلطان ملكشاه، وكانت محسنة للأجناد ومن ثم قدموا ولدها وبايعوه.
والثاني : أنها كانت من نسل الملوك الترك، وقيل أنها من نسل أفراسياب،
والثالث : أن الأموال كانت بيدها ففرقتها فيهم فبايعوه وأخذوا معهم وعادوا به إلى أصفهان ،
وقد بعثت تركان خاتون إلى الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله في بغداد تطلب منه أن يعهد بالسلطنة لابنها محمود بن ملكشاه وأن تكون الخطبة باسمه، ولكن الخليفة لم يجبها إلى ما طلبت ورد عليها قائلاً : إن ابنك طفل صغير وهو لا يليق بالملك.
غير أن الخليفة العباسي ما لبث أن اضطر إلى الاعتراف به سلطاناً عقب وفاة أبيه ، ومما قيل في هذا الصدد أن الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله اضطر إلى الاعتراف بسلطنة محمود، لأن ملكشاه كان يحتفظ بابنه (ابن الخليفة) الأمير جعفر ، عنده ليهدد به الخليفة وقد كان برفقة جده السلطان ملكشاه بعد وفاة والدته خاتون..
وكان السلطان ملكشاه عازماً على توليته الخلافة بدلاً من أخيه المسترشد الذي ولي عهد الخليفة المقتدي بأمر الله، ولكن وفاة السلطان ملكشاه غيرت مجرى الأمور وعاد أبو الفضل جعفر إلى والده المقتدي بعد وفاة جده السلطان ملكشاه ...
فخشي الخليفة من تكرار التجربة مع سلاطين السلاجقة ولذلك وافق على ما رأته خاتون من انفاذ الأمير جعفر إلى بغداد لقاء اعتراف الخليفة بسلطنة ولدها محمود ،...
ومهما يكن من أمر، فإن الخليفة العباسي منزوع النفوذ والسلطان ولا يملك القدرة على الاعتراض.
وفي 22 شوال سنة 485ﻫ، أقيمت الخطبة لمحمود في مساجد بغداد ومنحه الخليفة العباسي المقتدى بأمر الله الخلع السلطانية ولقبه " ناصر الدنيا والدين " ، واشترط الخليفة العباسي على تركان خاتون أن تكون السلطنة لولدها محمود، والخطبة له، بينما يختص الأمير أنر ، بتدبير الجيوش ورعاية البلاد، ويختص تاج الملك بجباية الأموال، وترتيب العمال،
إلا أن تركان خاتون في بداية الأمر كانت غير موافقة على هذه الشروط، وكان أبو حامد الغزالي يقوم بدور الوساطة بين الخليفة العباسي وبين أم محمود، وبعد ذلك أقنع أبو حامد الغزالي تركان خاتون بالموافقة على شروط الخليفة، ومن ثم وافقت على تلك الشروط .
ثم أرسلت تركان خاتون أحد أتباعها ليقبض على بركيارق، وبالفعل تم القبض على بركيارق وإيداعه السجن من قبل أتباعها لكي لا يكون طليقاً ومن ثم يصبح محمود في مأمن منه، !!
غير أن الأمر لم ينته عند هذا الحد الذي تخيلته تركان خاتون بأنه لو تم القبض على بركيارق لأصبحت في مأمن من كل محاولة لمنازعة ابنها في الحكم، فأتباع نظام الملك ومؤيدي بركيارق في أصفهان تمكنوا من إخراجه من سجن أصفهان ونصبوه سلطاناً في أصفهان وذلك نكاية في تركان خاتون.
و قد ظل الوزير الجديد تاج الملك الشيرازي وفيا لموقفه المعادي لنظام الملك قبل موت ملكشاه، وهكذا وجد سلطانان في وقت واحد محمود في بغداد وبركيارق في أصفهان، ومن ثم أصبحت المنازعة بينهما على عرش السلطنة أمراً حتمياً .
---------------‐---------------------‐-------------------------------
نظام الوزارة في الدولة العباسية ص 174.
آل سلجوق للبنداري ص 55.
طبقات الشافعية (4/317).
تجارب الأمم (2/76، 97) مسكويه.
العراق في العصر السلجوفي، حسين أمين ص 207.
سياست نامة ص 69.
نظام الوزارة في الدولة العباسيةّ ص 181.
دول الإسلام (1/269) نظام الوزارة في الدولة العباسية ص 197.
طبقات الشاقعية (4/312) نظام الوزارة في الدولة العباسية ص 197.
طبقات الشافعية (4/314) نظام الوزارة في الدولة العباسية ص 197.
آل سلجوق ص 56 للبنداري.
نظام الوزارة في الدولة العباسية ص 190.
المدارس النظامية في بغداد، مجلة سومر ج2، المجلد التاسع ص 317.
نظام الوزارة في الدولة العباسية ص 190.
*قطار : قافلة.
البداية والنهاية (12/150).
سير أعلام النبلاء (19/95).
الكامل في التاريخ (6/276)
البداية والنهاية (16/129).
الكامل في التاريخ (6/337).
سير أعلام النبلاء (19/96).
البداية والنهاية (16/126). (16/127).
الكامل في التاريخ (6/338)
طبقات الشافعية (4/328).
حول الأدب في العصر السلجوقي ص 128.
طبقات الشافعية الكبرى (4/322، 323 ).
المصدر نفسه (4/323) ، سير أعلام النبلاء (19/95). (19/96).
مرآة الزمان (1/221) ، السلاجقة في التاريخ والحضارة ص 45.
الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر ص 28.
مرآة الزمان (1/221، 223).
الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر ص 29.
الحياة السياسية ونظم الحكم في العراق ص 99.
المنتظم (9/62، 63) دولة السلاجقة لحسنين ص 75.
الكامل في التاريخ 06/341).
الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر ص 30.
☆ السلاجقة د. علي الصلابي ص 125 -132
---------------------------------------------------------------------
تابعونا
إرسال تعليق