تاريخ الدولة العثمانية (21) محمد الفاتح و إنجازاته الإدارية

 تاريخ الدولة العثمانية   (21)

--------------------------------------------------------------------

  محمد الفاتح و إنجازاته الإدارية  



-------------------------‐-------‐--------------------------‐-------

🔹بعد فتح البوسنة والهرسك كان  السلطان يعد لإخضاع إيطاليا ولكنه كان دائما يؤجل ذلكً المشروع؛ لظروف العثمانيين الحربية في البلقان، ولعناد هونيادي بالمجر وإسكندر بك ، ولذلك بعدما اختفى هذان الخصمان من المسرح السياسي في البلقان جهز السلطان محمد الفاتح الاستعدادات العظيمة البرية والبحرية، وأحب أن يمهد لذلك بالاستيلاء على جزيرة رودس حتى لا تصبح شوكة في جانب ممتلكاته العظيمة. 


وفي نفس الوقت الذي هاجم فيه الأتراك رودس أنزلوا جنودهم بقيادة بطل القرم إلى إيطاليا، على شاطئ أبوليا، وساروا نحو تارنتو،..


لقد وضع السلطان محمد الفاتح قدمه في إيطاليا واستولى على ميناء صالحة لتوغل جنوده في داخلها، وأخذ في تجهيز معَّد ِات عظيمة لإتمام مشروعه، ولم يكن يعرف وجهتها

ً الحقيقية غيره، فلقد كان يحتفظ دائما بسرية مشاريعه لنفسه، ولكنه مات بغتة وسط جنوده  في ٣ مايو سنة ١٤٨١م

وبذلك أِنقذت إيطاليا من الخطر ..


رحم الله السلطان محمد الفاتح 

----------------------------‐--‐-------‐----------------------------

🔸 لقد أنشأ السلطان محمد الثاني الفاتح دولة عظيمة لا تنازع كانت أقوى الدول الكبرى في القرن الخامس عشر، ووحَدها أرضا وشعوبًا فأصبحت كتلة متماسكة تمتد من أعالي نهر الفرات إلى البحر الأدرياتي، ومن البحر الأبيض إلى نهر الدانوب والقرم، وأزال بقايا الدول التي كانت ترهق جيوشه  في آسيا الصغرى، أو تناوئ العثمانيين في البلقان، ..


واتخذ للأتراك عاصمة جديدة عظيمة لها تاريخ مجيد، جميلة الموقع، متوسطة المركز بين بلادهم الآسيوية وممتلكاتهم الأوروبية، تشرف على البر والبحر، وتتفق مع ما أصبح للعثمانيين من مجد وقوة وجبروت، ولم يعد بعد عهد الفاتح للإغريق ولا للبنادقة ولا للجنوينين أو الصرب قوة ولا ذكر في البلقان إلى أن جاء القرن التاسع عشر، 


ومهدت فتوحات ذلك السلطان العظيم الطريق لفتوح العثمانيين التي سيقوم بها خلفاؤه في الشرق

والغب حتى أواسط أوروبا.

ً 

كان السلطان الفاتح مصلحا كبيرا ومنظما من الطراز الأول، كما كان رجل حرب من العبقريات النادرة التي شهدها التاريخ.


وكان رجل ثقافة واسع الاطلاع في العلم والأدب، يتذوق الشعر ويستلهم الفن، كما كان طويل الباع في الإدارة والحكومة.


رتب السلطان الحكومة الجديدة لدولته العظيمة، واستفاد من كل الظروف المحيطة واستلهم كل الحضارات التي تَرك تراثها للعثمانيين؛ فهو سلطان مسلم يحكم دولة إسلامية واسعة الأطراف، قبل كل شيء ولكنه في نفس الوقت جلس على عرش الأباطرة البيزنطيين و في مدينتهم وعاصمتهم فأصبح خليفة القياصرة كما حل محل الأمراء الكثريين الذين كانوا يحكمون في البلقان .


 حكم السلطان الفاتح دولة تتكون من أجزاء مهمة في شرق ِ البحر الأبيض لها حضارات امتزج فيها الشرق والغرب معا، وتقابلت فيها نُظم سياسية مختلفة وقوانين وعادات متباينة، وديانتان عظيمتان هما المسيحية والإسلام، فكان لا بد من مراعاة هذه الحقائق جميعها والاستفادة منها في إقامة صرح دولته الجديدة لعظيمة.

ُ 

اهتم محمد الثاني بإصلاح النظام الداخلي للدولة، وعِني قبل كل شيء بنشر الطمأنينة والسلام في إمبراطوريته الواسعة التي تجمع عناصر كثيرة من خلائق يختلفون في الجنس واللغة والدين والعادات،...


 فبجانب الأتراك المسلمين — وهم عمود الدولة الفقري — يوجد الإغريق والصقالبة على اختلاف أنواعهم، والبلغار والألبانيون، يوجد الأرثوذكس والكاثوليك، عاش هؤلاء جميعا قبل الحكم العثماني حياة اضطراب وفوضى لا يعرفون للأمن طعما، ونسوا من زمن بعيد كل شيء عن الطمأنينة والاستقرار ، 


فلا بَُّد إذن من وضع نظام قوي للحكم يعطي لهؤلاء ما فقدوه من حرية وراحة وسلام، ولا بَُّد من وضع نظام خاص لسكان الدولة من غير المسلمين ينظم العلاقات بينهم وبني جيرانهم من المسلمين، وبينهم وبين الدولة التي تحكمهم وترعاهم.


كان أول ما عنى به السلطان محمد الثاني منذ تولى السلطنة العمل على استقرار العرش لأنه عرف من تجارب التاريخ العثماني أنه على استقرار مركز السلطان يتوقَّف كل شيء

في الدولة، تتوقف قوتها ونظمها،


لقد رأى الخلل والاضطراب يلم بالدولة إذا ما برز المتنافسون على العرش وأوقدوا نيران الحرب الأهلية، ولم يخف عليه ما عانته الدولة من حروب أهلية كادت تُودي بحياتها في عهد من سبقوه من السلاطين، كما قرأ بنفسه قصة الانقسام والتفرق في البلقان، وما آلت إليه حال أهلها من ضعف واضمحلال؛ 


ولذا عمل على استقرارمركز السلطان ولم يكن هناك قبل عهده قانون يحدد من يَِلي العرش العثماني بعد وفاة السلطان فوضع السلطان الفاتحُ سنَّة جديدة، وإن كانت تبدو للكثريين قاسية سيئة، .

ُ  

وهي أن السلطان الذي يَِلي الحكم له الحق في قتل إخوته الباقين حتى لا ينازعه أحد منهم على العرش في المستقبل، فجعل بذلك قتل الإخوة سنَّةً مشروعة، ولكنه بررها أمام نفسه وأمام الناس بأن غرضه منها هو «سلام الدنيا والعالم» فوجود الإخوة — كما فهم هو من التاريخ العثماني — من العوامل التي تثري الفتنة بني المسلمين فقتلهم أهون في نظره من

إثارتها.


وكان يرى أن يكون مركز السلطان محترما بين رجال دولته، فكان من أعداء التبذُّلُّ وإن كان من أنصار التبسط، لم يسمح لأحد من رجال دولته بالجلوس على مائدته، وجعل

ً ذلك قانونًا، فوضع بذلك تقليدا هو ألا يكون للسلطان إلا صحبة ممتازة يأنس بها، زمرة من رجال الدين والعلماء والفلكيين والأطباء،


 فلم يكن للفاتح إذن اتصال برجال الدولة إلا حين تقضي بذلك أعمال الدولة وإلا إذا كان لهؤلاء الرجال صفات علمية أو أدبية أو فنية تتناسب وذوقه؛ ولذا كان رجال الدولة بلا استثناء يرهبونه ويخشْون جانبه ويخافون بطشه.


وليس معنى ذلك أن فاتح القسطنطينية لم يكن يختلط برجاله أو بجنوده أو علمائه ففي أوقات الحرب أو الاستعداد لها كان دائم الاتصال بوزرائه وقُوِاده وجنوده يُشرفُ عليهم بنفسه، ويقوي من روحهم المعنوية ويعدهم ويمنيهم بكل ما يستطيع تنفيذه، وفي أوقات السلم في مجالسه الأدبية وحلقاته الشعرية كان يتبارى مع الأدباء والشعراء والعلماء في تذوق الأدب وقول الشعر ونقد الكتب.


ولقد وضع السلطان محمد الفاتح قوانين الإتيكيت والحفلات في الدولة العثمانية، وهو بلا شك متأثر بالحياة الاجتماعية للأباطرة البيزنطيين ، وباتِّساع الدولة ودخول عناصر

أجنبية غربية فيها، فوضع بذلك أساس التشريفات في القصر السلطان العثماني.

ِ

َّ ووجه عنايته كذلك إلى قوانين الدولة، فحاول تقنين الشرع واختار لذلك من العلماء الأَجَّلاء من يستطيع القيام بهذه المهمة العظيمة ووضع قانون نامه، وهذا القانون كما يقول هو:

«هو قانون آبائي وأجدادي، سيعمل به خلفائي من بعدي، من جيل إلى جيل.» 


فحاول أن يقنن الأوامر والمراسيم التي أصدرها في أوقات مختلفة السلاطين الذين سبقوه. ولم يكن

ً هذا التقنين كاملا بأي حال ولكنه وضع الأساس.

َّ 

هذا القانون مكون من ثلاثة أبواب، وهو يتعلَّق بمناصب الموظفين وببعض التقاليد وما يجب أن يتخذ في التشريفات والاحتفالات، وهو يقرر كذلك العقوبات والغرامات.


ونظم السلطان الفاتح الحكومة الجديدة، وساعده في هذه الناحية الصدر الأعظم محمد القرماني.


 وهذه الحكومة حكومة إسلامية قبل كل شيء، قائمة على تفوق العنصر الإسلامي أيٍّا كان أصله أو جنسه، ولقد جعلها السلطان ترتكز على دعائم أهمها الوزارة والقضاء والمال.


أما من حيث الوزارة فلقد جعل الفاتح عدد الوزراء أربعة، وجعل للصدر الأعظم قيادة الجيش ورياسة الديوان، وإن كان الفاتح قد اهتم بالإشراف على الأمور في كثير من الأحيان بنفسه 


 أما من حيث النظام الإداري فلقد أبقى السلطان النظام القديم بإدخال بعض تعديلات بسيطة فيه. وهذا النظام يقضي بتقسيم الدولة إلى ولايات للكبرى منها بايلربايات (جمع بايلرباي) وللصغرى البكوات الصناجق، 


وترك لبعض الإمارات الصقلبية في أول الأمر بعض مظاهر الاستقلال الداخلي، فكان يحكمها أمراء منها، ولكنهم تابعون

للدولة ينفِّذون أوامر السلطان بكل دقة، وهو يعزلهم ويعاقبهم إذا خالفوا أوامره أو فكروا في الثورة على حكومته.


ً ولقد اهتم السلطان الفاتح اهتمام ٍّ ا خاصا بالجيش، فالجيش في نظره أساس الدولة وركنها الأول، فعِني بإعادة تنظيمه وبمسألة قيادته، فكان لكل فرقة آغا هو قائدها، وجعل

لآغا الإنكشارية حق التقدم على القواد الآخرين؛ فهو يتلقى أوامره من الصدر الأعظم الذي جعل له السلطان القيادة العليا للجيش.


ونال عنصر الرقيق في الجيش عناية خاصة، فكما كتب إلى أوزون حسن يقول:

«إن دولتنا هي منزل الإسلام، وإن سراج إمبراطوريتنا ليُضيء من قلوب الكافرين.»


 كان السلطان محمد يشعر أن دولته أكبر دولة إسلامية؛ ولذا فهو يعمل على تجديد شبابها متَِّبًعا سنَّةَ من مضى من السلاطين العثمانيين، وذلك بإدخال عناصر جديدة فيها،

وقوتها هذه العناصر التي أثبتت كفايتها وجدارتها. لقد كان مؤمنًا بمهمته الإسلامية والعالمية، ..


فهو يرى ضرورة الجهاد في سبيل الله، ويعتقد أن نظم الدولة يجب أن تخدم هذه الغايةالنبيلة، هذه الغاية التي ترمي إلى ضم العناصر المسيحية النشيطة إلى هذه الدولة الناهضة

القوية.

َّ 

ُعِني ِ السلطان محمد الثاني بفرق المشاة عنَايَةً خاصة في الوقت الذي ظلت فيه أوروباَّ تعتمد على نظام الفرسان كأهم فرقة في جيوشها، ومن المقطوع به أن الدول التي اهتمت

بنظام المشاة في ذلك الوقت كان لها قصب السبق في أوروبا؛ 


فتركيا من ناحية الشرق وإسبانيا من ناحية الغرب كانتا أقوى دول في أوروبا من الناحية الحربية، في النصف الثاني للقرن الخامس عشر وفي القرن السادس عشر.


 وإذا كان محمد الثاني قد اهتم بنظام الجيش، فلقد كان أهم عوامل استقرار النظام فيه الانتظام في دفع مرتَّباته، فوجه السلطان عنايته بصفة خاصة إلى هذه الناحية، بل واهتم بزيادتها من حين لآخر، ولقد أعاد تنظيم الإنكشارية، وناط برئيسها أعمال البوليس بمدينة إستامبول، فلا عجب إذا

أصبح جيش الفاتح الجيش المنصور الذي لا يُقهر.


ونبغ في عهد الفاتح عدد من القَُّواد النابهين الذين عاونوه في حروبه وكان لهم ضلَع كبري في انتصاراته، وربما كان أهمهم محمود باشا وأحمد باشا، وكل من هذين الرجلين تولى  الوزارة والصدارة العظمى، وكل منهما من أصل مسيحي، وارتفع مكانًا عليٍّا في الدولة.


فأما محمود باشا فكان يُطلَق  عليه ولي الدين محمود، ولَِد من أبوين صربيين، وكما تقول رواية من أب إغريقي وأم صربية، أِتي به إلى أدرنة إلى بلاط السلطان مراد الثاني

ُحيث تثقَف ثقافة إسلامية، ...


ثم نبغ في الدولة، فعينه السلطان محمد الثاني صدرا أعظم في سنة ١٥٤٣م بعد إعدام خليل باشا، وكان يصحب السلطان في كل غزواته،


ثم كلفه السلطان بإخضاع الصرب، وهو الذي قاد الحملة البحرية إلى طرابزون وسينوب، بينما كان السلطان نفسه يقود الحملة البرية. واشترك كذلك معه في حروب المجر والبوسنة،

ً وحكم صنجق غاليبولي، ولقد بنى هذا الرجل مسجدا ومدرسة في إستامبول، وكان محبٍّا للعلم يتذوق الأدب ويقول الشعر، وله ديوان عدلي.


أما أحمد باشا كيديق فأصله جندي إنشكاري أوصلته كفايته ومقدرته إلى منصب القيادة، وتم على يديه زوال الحكم السلجوقي نهائيٍّا من آسيا الصغرى، وهزيمة أوزون

حسن وإخضاع كيليكيا للأتراك. 


وفي فترة عمله كصدر أعظم تم على يديه فتح القرم، وهو قائد الحملة الإيطالية التي استولت على تارنتو. ولقد اشترك ذلك الرجل في الأحداث السياسية في عهد السلطان بايزيد الثاني ابن الفاتح مما أدى إلى اضطهاده.


وكما اهتم السلطان الفاتح بالجيش اهتم بالمسائل المالية فهي أساس مهم من أسس الدولة. فدقق في تنظيم جمع الضرائب حتى تكون الحكومة مطمئنة إلى موارد دخلها، وجعل السلطان محمد الثاني الإشراف على الأمور المالية للدفتردار، وهي وظيفة ترجع إلى أصل فارسي، وكان للدولة على عهد الفاتح دفتردار واحد لروميليا عينله السلطان مساعدا يختص بالشئون المالية لآسيا الصغرى.


ُ وعني بالقضاء فهو من عُمد الدولة، كما عني برجاله وتحديد وظائفهم ومناصبهم، وجعل الإشراف عليه لقضاة العسكر، فكان لهم مركز مهم في الدولة؛ فهم أعضاء في الديوان

ويتقدمون على الوزراء، والسلطان الفاتح هو الذي أعطى املفتي لقب شيخ الإسلام فأصبح ذلك المركز — وخاصة بعد عهد الفاتح — من أعظم مراكز الدولة.


وكانت قوانين الدولة تختلف على حسب مللها، وإن كان القانون الأساسي للدولة هو الشرع؛  فهو قانون الحكومة الذي يحدد علاقات المسلمين وعلاقتهم بغيرهم من سكان

الدولة؛ فهو يحدد علاقة المسلمين بالذميين.


ولقد ترك للذميين حق اتباع كنائسهم الخاصة وقوانين مللهم المختلفة وتقاليدهم فيما يتعلق بمسائل الحكم المحلي، وفيما يختص بمسائلهم الشخصية كالزواج والطلاق، وكذا المسائل الدينية، فهؤلاء الذميون تركوا ليتَّبعوا في حياتهم نُظمهم وتقاليدهم القومية،ً فكان حكم الأتراك لهذه الرعية حكما غير مباشر، ولم تشترك هذه الرعية في حياة الدولة السياسية أو العلمية إلا بقدر صغير محدود، ولكنها تمتعت بسلام وأمن لم تعرف مثلهما قبل الحكم التركي.


َ وراعى الأتراك في القضاء العدالة التامة بين المسلمين والمسيحيين إلى حِّد أن إحدى الفتاوى قد صدرت تقول بأنه إذا قَتَل ألف من المسلمين مسيحيٍّا واحدا مخلصا للسلطان دون حق يجب قتلهم، ...


ولقد فرض النظام العثماني على المسيحيين ضريبة الرءوس وضريبة الأراضي ولم تكن حالهم سيئة في عهد الحكم العثماني في العصور الأَُول. بل كانت أمامهم الفرص للتعاون مع العثمانيين في مناصبهم وحروبهم.

ً 

ونظرا لأن معظم رعايا السلطان الفاتح المسيحيين كانوا من الأرثوذكس يجب أن نشير هنا إلى أن فتح القسطنطينية لم يضعف من مركز الكنيسة الإغريقية بأي حال، فلقد كان

َّ جورج سكولاريوس المسمى جناديوس والذي اختاره الفاتح بطريركا من أشد أعداء فكرة اتحاد الكنيستين الشرقية والغربية،...


 بل لقد أعلن أن الخضوع للكنيسة الغربية اللاتينية نقمة على المسيحية ولعنة على الإمبراطورية، وسيعقبه حتما انتهاء الدولة البيزنطية، وفعلا تم ما تنبأ به.


كان السلطان الفاتح يرغب في أن تستمر للكنيسة الأرثوذكسية قوتها ونظامها حتى يستطيع أن يسترضي الرعايا الأرثوذكس، وان يسجل لهم قبول الحكم الإسلامي الجديد.


ولذا احتفظ السلطان بنظم الكنيسة العتيقة، وأبقى لها الكثير من سيطرتها القديمة، فطلب من القساوسة الأرثوذكس الاجتماع لينتخبوا من بينهم بطريركا، واعتمد من اختاروه وهو جناديوس، واحتفل بانتخابه على النظام وبالأبهة التي كانت متَّبَعة في مثل هذه الاحتفالاتً في عهد الأباطرة المسيحيني، وقال له: «لتكن بطريركا على صداقتي في كل وقت وظرف، ولتتمتع بكل الحقوق والامتيازات التي كانت لمن سبقك.»


 ولكي يرفع من مركز البطريرك ً في الدولة الجديدة أهداه فرسا جميلا ً ، وجعل له حرسا خاصا من الإنكشارية،  وصحبه باشاوات الدولة إلى المكان الذي أعد له،


ثم اعترف بقوانين الكنيسة الأرثوذكسية ووضعها تحت حمايته، وأمرها بإقامة حفلاتها الدينية كالمعتاد، وجِمَعت ْواشُترِيَت كل آثار القديسين ومخلَّفاتهم التي نُهبَت ُ ، وسلِّم ْت إلى الكنائس والأديرة.

ُ

ولكن كان على الكنيسة الجديدة أن تخضع للسلطان كبقية النظم الأخرى الموجودة في الدولة، ففي أي لحظة يستطيع السلطان عزل البطريرك أو كبار رجال الدين، ولكن من الناحية العملية ما كان السلطان يلجأ إلى اضطهاد الكنيسة أو رجالها،

ً بل كانوا دائما موضع حمايته أو إكرامه. 


وكانت فكرة الاضطهاد الديني غير موجودة في ذهن الفاتح، و نعمت الكنيسة الأرثوذكسية في عهده وعهد خلفائه بهدوء واستقلالً لم تنعم بمثله قبل حتى في عهد كثير من الأباطرة البيزنطيين أنفسهم، وأخلص القسس الطاعة لذلك السيد العظيم.


ولقد قوي بذلك مركز الكنيسة الإغريقية، ورضي الإغريق عن ذلك الحكم الجديد الذي ترك لهم حرية المعتَقَد ومنحهم استقلالا دينيٍّا غير منقوص، ولقد أبقى الفاتح بعض الكنائس

على حالها، ولم يمنع المسيحيين من إقامة شعائر دينهم فيها، وأصبح حي الفنار المطل على القرن الذهبي حلقة الاتصال بين القسطنطينية الإسلامية والقسطنطينية المسيحية.


وفي حي الفنار المظلم هذا وفي منازله القاتمة عاشت العائلات الإغريقية العظيمة مثل الكومني والباليولوجي والدوكا، عاشت كآثار أرستقراطية عظيمة عريقة، عاشت لا أراضي لها ولا جاه إلا الأصل المجيد الذي تنتمي إليه.


ً لقد أصبحت البطريركية الإغريقية في إستامبول موئلا للمسيحية ومركزا للقوميةِ الإغريقية إلى أن حان الوقت لظهور الإغريق كأمة لها كيَانها الخاص حين ضعفت الدولة

العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر.

ِ 

وأما القسطنطينية فلقد أصبحت إستامبول على لسان الأتراك، وأصبح هلال بيزنطة رمز القوة العثمانية، وعلما لعظمتها.


وأما من حيث إعادة الحياة والهدوء إلى هذه المدينة العظيمة فلقد أمر السلطان محمد الفاتح حين دخلها بوقف القتل، ولم يسمح باستباحتها بعد الأيام الثلاثة التي حددها وكان قد قُِتل ُ من سكان المدينة العدد الكثير، وشرِّد العدد الكثير، وأسر العدد الكثير في معارك الفتح، ..


ولكن ما كان الفاتح يعمل على خراب المدينة العظيمة مطلقًا، فهو رجل ُمقدر للجمال يتذوق الفن، وإنما كان عليه أن يُعيد لها مركزها القديم وعظمتها السابقة بنشر الأمن والطمأنينة فيها وإنشاء حياتها الاجتماعية والاقتصادية من جديد؛ حتى تصبح صالحة لأن تكون عاصمة لأقوى دولة في أوروبا وآسيا معا. ..


فأعاد إصلاح أسوارها، وبنى فيها حصنًا منيعا له سبعة أبراج، وعمل على تشجيع من بَقي من سكانها على الإقامة فيها والاستقرار، وطلب من كثير من العائلات التركية والإغريقية والألبانية سكناها و عاد اليها  عدد كبير من سكانها الذين كانوا قد هربوا منها، كما لجأ إليها عدد لا يُستهان به من مهاجري الأرمن والفرس والعرب.


ولقد اهتم السلطان الفاتح بإنشاء المباني العظيمة في هذه الندينة، فبنيت فيها دار السعادة العتيقة بقرب الجامع الذي كان أنشأه السلطان بايزيد خان الأول، فكانت أول دار

أنشأها السلاطين العثمانيون بعد فتح هذه المدينة، ..


وكذلك أمر السلطان الفاتح ببناء جامعه المشهور باسمه مسجد الفاتح، وهو واقع على التل الرابع في المدينة، بناه المهندس خرستو دولاس على أنقاض كنيسة سان أبوتر، وهذا الجامع يُ رى من البحر من مسافة بعيدة وله مئذنتان، وقدُ أصابته الزلازل فيما بعد، فأعاد بناءه السلطان مصطفى الثالث.


 ومن منشآت السلطان الأخرى جامع أبي أيوب الأنصاري، وجامع الشيخ البخاري بجانب باب أدرنة، وجامعً الإنكشارية (أرطة جامعي).


 كما أنشأت السلطانة زوجته ستي خانوم جامعا في أدرنة،

َ وكذا بنته السلطانة عائشة أنشأت جامعا في نفس هذه المدينة التي كانت تُعتَبر ثاني مدن الدولة العثمانية. 


وأمر السلطان ببناء ثماني مدارس حول جامعه الكبير، وشيد خلفهامنازل للطلبة ومستشفى (دار الشفاء) وحمامات، وبقربها خانات لنزول المسافرين، كما أنشأ مدرسة للعلوم الشرعية، وبالجامع مكتبة هي الأولى من نوعها في إستامبول، وبقربها

يوجد قبر عليمة هانم أم السلطان محمد الثاني، ..


ويقول رامبرتي، الذي كتب في سنة ١٧٣٤م: «بأن جامع السلطان له «إمارة» متصلة به يسمح لكل شخص بالنزول فيهاحيث يستضاف ثلاثة أيام، فيُعطى العسل والأرز واللحم والخبز وغرفة للنوم، وكان يهواها الآلاف من الناس، وبجانبها الحمامات والسبل الجميلة.»


ُ وفي إستامبول ميدان سِّمي باسم الفاتح، وهو «فاتح ميداني» وآق ميدان، وهناكً أيضا محلة تنسب إليه فيها جامع ومدرسة، ولها سوق خاصة شهرية تعقد فيها، ويجد

الناس فيها ما يحتاجون إليه بالأسعار المناسبة.


ومن المساجد التي أِنشئَت في العاصمة في عهده كتشوق أيا صوفيا على بحر مرمرة، وكانت في الأصل كنيسة القديس سرجيوس وباكوس، وجامع زيرق على القرن الذهبي،

ً وكان كنيسة أيضا وحِّول ً جامعا وسِّمي على اسم ملا زيرق، وكذلك جامع محمد باشا وجامع مراد باشا سِّميَا باسم وزيرين للسلطان الفاتح.

ُ--------------------------------------------------------------------

☆ السلطان محمد الفاتح  لمحمد مصطفى صفوت ص97- 104

--------------------------------------------------------------------

تابعوا #تاريخ_الدولة_العثمانية_جواهر  (21)

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم

التاريخ الاسلامى

2/recent/post-list