تاريخ الدولة الأموية (7)
معاوية في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
--------------------------------------------------------------
حينما جاء عثمان رضي الله عنه إلى الخلافة كان معاوية والياً على معظم الشَّام، فأقرَّه عثمان عليها ، كما أقرَّ بعض الولاة الآخرين على ولاياتهم، كاليمن، والبحرين، ومصر وغيرها من الولايات،
وقد تطورت الأحداث، وضُمَّت إلى معاوية بعض المناطق الأخرى حتى أصبح معاوية هو الوالي المطلق لبلاد الشام، بل أصبح أقوى ولاة عثمان، وأشدّهم نفوذاً .
وقد كان في بداية خلافة عثمان ولاة آخرون، منهم: عمير بن سعد الأنصاري، وكان على حمص، وينافس معاوية بن أبي سفيان في المكانة لدى عثمان رضي الله عنه إلا أن عميراً مرض مرضاً أعياه عن القيام بأعباء الولاية، فطلب من الخليفة عثمان أن يعفيه، فأعفاه، وضم ولايته إلى معاوية بن أبي سفيان،
وبذلك زاد نفوذ معاوية، فامتد إلى حمص التي ولى عليها من قبله عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، كما توفي علقمة بن محرز، وكان على فلسطين، فضمّ عثمان ولايته إلى ولاية معاوية فاجتمعت الشَّام له بعد سنتين من خلافة عثمان رضي الله عنه، وأصبح الوالي المطلق فيها طيلة السنوات الباقية من خلافة عثمان رضي الله عنه حتَّى توفي عثمان وهو عليها كما هو معروف ،
وقد كانت فترة معاوية على الشَّام مليئة بالأحداث، وكانت الشَّام من أهم مناطق الجهاد، ومع أن الشَّام في داخلها قد استقرت أوضاعها، وسادها الإسلام، وقلَّت محاولات الرُّوم إثارة القلاقل فيها، إلا أن الشام كانت متاخمة لأرض الروم، وبالتالي كان المجال مفتوحاً أمام معاوية للجهاد في تلك النواحي .
--------------------------
فتوحات حبيب بن سلمة الفهري رضي الله عنه:
كان حبيب بن سلمة الفهري من أبرز أمراء الجهاد في زمن ولاية معاوية على بلاد الشَّام، فعندما أجلبت الرُّوم على المسلمين بالشام بجموع عظيمة أوّل خلافة عثمان، كتب معاوية إلى عثمان يستمده، فكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة والي الكوفة عندما انتهى من مهمته في أذربيجان وعاد إلى الموصل كتابا جاء فيه:
" أمَّا بعد: فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إليَّ يخبرني: أن الرُّوم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدّهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإذا أتاك كتابي هذا، فابعث رجلاً ممَّن ترضى نجدته، وبأسه، وشجاعته، وإسلامه في ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي والسَّلام. "
فقام الوليد في الناس، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال:
" أمّا بعد أيها الناس، فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاءً حسناً، وردَّ عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلاداً لم تكن افتتحت، وردَّهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين،...
وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشر آلاف إلى الثمانية آلاف، تمدُّون إخوانكم من أهل الشام، فإنَّهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم، والفضل المبين، فانتدبوا ـ رحمكم الله مع سليمان بن ربيعة "
فانتدب النّاس، فلم يمض ثلاثة أيام حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فمضوا، حتى دخلوا الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهريُّ، ... وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة الباهليُّ،
فشنُّوا الغارات على أرض الروم، فأصاب الناس ما شاؤوا من سبي، وملؤوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصوناً كثيرة ،
وكان على المسلمين حبيب بن مسلمة، وكان صاحب كيد لعدوه، فأجمع أن يبيت قائدهم الموريان ـ أي : يباغته ليلاً ـ فسمعته امرأته أمُّ عبد الله بنت يزيد الكلبية يذكر ذلك، فقالت : فأين موعدك ؟ قال : سرادق الموريان أو الجنة..
ثم بيتهم، فغلبهم. وأتى سرادق الموريان فوجد امرأته، قد سبقته إليه ،
وواصل حبيب جهاده، وإنتصاراته المتوالية في أراضي أرمينية، وأذربيجان، ففتحها إمّا صلحاً. أو عنوة ،
وقد كان حبيب بن سلمة الفهري من أبرز القادة الذين حاربوا في أرمينية البيزنطية، فقد أباد جيوشاً بأكملها للعدوِّ،وفتح حصوناً، ومدناً كثيرة ، كما غزا ما يلي ثغور الجزيرة العراقية من أرض الروم فافتتح عدة حصون هناك، مثل شمشاط، وملطية، وغيرها ،
---------------------
غزوات معاوية في عهد عثمان في البر
أدرك معاوية رضي الله عنه بأن إزالة خطر الروم وتهديدهم للمسلمين لا يتم إلا بمواصلة غزو الروم وتنشيط حركة الجهاد بشكل مستمر في الثغور الشامية والجزرية وشحنهما بالمرابطين وتعهدها على الدوام،
وقد أخذ منه ذلك وقتاً طويلاً وبذل فيه جهداً كبيرا خلال ولايته تلك في عهد عثمان، ففي سنة خمس وعشرين للهجرة قام معاوية بجولة عسكرية على الثغور الشامية، فوجد الحصون فيما بين أنطاكية وطرسوس خالية فوقف عندها جماعة من أهل الشام والجزيرة وقنسرين حتى انصرف من غزاته،
ثم أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره ففعل مثل ذلك. وكانت الولاة تفعله ، وفي سنة إحدى وثلاثين غزا من ناحية المصيصة فبلغ دروليوم ، فلما خرج جعل لا يمر بحصن فيما بينه وبين النطاكيه إلا هدمه ،
وكذلك الشأن في الثغور الجزرية فقد أولاها عنايته فقد وجه في الأيام الأولى لولايته تلك، كلا من حبيب بن مسلمة الفهري وصفوان بن المعطل السلمي إلى شمشاط ففتحها. كما وجه حبيب بن مسلمة إلى إعادة فتح ملطية بعد أن انتقضت، ففتحها عنوة، ورتب فيها رابطة من المسلمين مع عاملها،
كما قام معاوية بنفسه بعد ذلك بحملة أخرى يريد التوغل في أرض الروم فقد مرَّ على ملطية فشحنها بجماعة من أهل الشام والجزيرة وغيرهما وذلك لكي تكون طريقاً آمناً لحملات الصوائف. كما غزا حصن المرأة من الثغور الجزرية في السنة نفسها ، وكان يتعهد حصن الحدث،
وبنى مدينة مرعش وأسكنها الجند، وكل هذه المدن والحصون من الثغور الجزرية ، ولما اطمأن معاوية إلى قوة جانبه بعد تلك الإجراءات أخذ يغزو في عمق الأراضي الرومية، فقد قاد بنفسه غزوة سنة اثنين وثلاثين للهجرة توغل فيها بجيشه حتى وصل مضيق القسطنطينية .
------------------------
معاوية يلتمس من عثمان رضي الله عنهما السماح له بالغزو البحري :
كان معاوية يلح على عمر بن الخطاب في غزو البحر، ويصف له قرب الرُّوم من حمص، ويقول: إن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم، وصياح دجاجهم حتى كان ذلك يأخذ بقلب عمر،
فكتب عمر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص : صف لي البحر وراكبه، فإن نفسي تنازعني إليه،
فكتب إليه عمرو : إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، إن ركن خرَّق القلب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة هم كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق.
فلما قرأ عمر بن الخطاب كتاب عمرو بن العاص كتب إلى معاوية : أن لا، والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وتالله لمسلم أحبُّ إليَّ مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي، وقد تقدمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء منَّي، ولم أتقدم إليه في ذلك .
ولكن الفكرة لم تبرح نفس معاوية، وقد رأي في الرُّوم ما رأى، فطمع في بلادهم وفتحها، فلمَّا تولَّى الخلافة عثمان عاود معاوية الحديث، وألحَّ به على عثمان، فردّ عليه عثمان رضي الله عنه قائلاً : أن قد شهدت ما ردَّ عليك عمر ـ رحمه الله ـ حين استأذنته في غزو البحر.
ثم كتب إليه معاوية مرَّة أخرى يهوِّن عليه ركوب البحر إلى قبرص فكتب إليه :
"فإن ركبت معك امرأتك فاركبه مأذوناً وإلا فلا "
كما اشترط عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه أيضاً بقوله : "لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم، خيِّرهم، فمن اختار الغزو طائعاً، فاحمله وأعنه "
، فلما قرأ معاوية كتاب عثمان نشط لركوب البحر إلى قبرص، فكتب لأهل السواحل يأمرهم بإصلاح المراكب، وتقريبها إلى ساحل عكَّا، فقد رمَّه ليكون ركوب المسلمين منه إلى قبرص .
------------------------
غزو قبرص :
أعدَّ معاوية المراكب اللازمة لحمل الجيش الغازي، واتَّخذ ميناء عكَّا مكاناً للإقلاع، وكانت المراكب كثيرة، وحمل معه زوجه فاخته بنت قرظة، كذلك ، كذلك حمل عبادة بن الصَّامت امرأته أمَّ حرام بنت ملحان معه في تلك الغزوة ،
وأمُّ حرام هذه صاحبة القصَّة المشهورة :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أمَّ حرام بنت ملحان، فتطعمه، وكانت أمُّ حرام تحت عبادة بن الصَّامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فأطعمته، ثم جلست تفلي من رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك.
فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟
قال : ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبيج هذا البحر ملوكاً على الأسرَّة، أو مثل الملوك على الأسرَّة.
وقالت: فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم! فدعا لها ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ، وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟!.
قال: ناس من أمتي عرضوا عليَّ في سبيل الله...) ـ كما قال في الرواية الأولى- قال: أنت من الأوّلين.
فركبت أمّ حرام بنت ملحان في البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت . ورغم أن معاوية رضي الله عنه لم يجبر الناس على الخروج، فقد خرج معه جيش عظيم من المسلمين ، مما يدل أن المسلمين قد هانت في أعينهم الدُنيا بما فيها، فأصبحوا لا يعبأون بها بالرَّغم من أنها قد فتحت عليهم أبوابها، فصاروا يرفلون في نعيمها.
إن المسلمين قد ترّبوا على أنّ ما عند الله خير، وأبقى، وأن الله اصطفاهم لنصرة دينه، وإقامة العدل، ونشر الفضيلة، والعمل على إظهار دين الله على كلِّ ما عداه، وهم يعتقدون: أنّ هذه المهمَّة هي رسالتهم الحقيقية، وأن الجهاد في سبيل الله هو سبيل الحصول على مرضاة الله، فإن هم قصَّروا في مهمَّتهم، وقعدوا عن أداء واجبهم، فسيمسك الله عنهم نصره في الدُّنيا، ويحرمهم مرضاته في الآخرة،
وذلك هو الخسران المبين، من أجل هذا هُرعوا مع معاوية، وتسابقوا إلى السفن يركبونها، ولعلَّ حديث أمِّ حرام قد ألمَّ بخواطرهم، فدفعهم إلى الخروج للغزو في سبيل الله تصديقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد انتهاء فصل الشتاء في سنة ثمان وعشرين من الهجرة 649م ،
وسار المسلمون من الشام وركبوا من ميناء أم حرام لتركب دابَّتها، فنفرت الدّابة، وألقت أمَّ حرام على الأرض، فاندقت عنقها، فماتت ، وترك المسلمون أمَّ حرام بعد دفنها في أرض الجزيرة عنواناً على مدى التضحيات التي قدَّمها المسلمون في سبيل نشر دينهم، وعرف قبرها هناك بقبر المرأة الصالحة ،
واجتمع معاوية بأصحابه، وكان فيهم: أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاريُّ، وأبو الدَّرداء، وأبو ذر الغفاريُّ، وعبادة بن الصَّامت، وواثله بن الأسقع، وعبد الله بن بشر المازنيُّ،وشدّاد بن أوس بن ثابت، والمقداد بن الأسود، وكعب الحبر بن ماتع، وجبير بن نضير الضرمي.
وتشاوروا فيما بينهم، وأرسلوا إلى أهل قبرص يخبرونهم: أنهم لم يغزوهم للاستيلاء على جزيرتهم ،ولكن أرادوا دعوتهم لدين الله، ثمَّ تأمين حدود الدولة الإسلامية بالشام، وذلك لأنَّ البيزنطيِّين كانوا يتخذون من قبرص محطَّة يستريحون فيها؛ إذا غزوا، ويتموَّنون منها، إذا قلَّ زادهم،
وهي بهذه المثابة تهدِّد بلاد الشام الواقعة تحت رحمتها، فإذا لم يطمئن المسلمون على مسالمة هذه الجزيرة لهم، وخضوعها لإرادتهم، فإن وجودها كذلك سيظلُّ شوكة في ظهورهم، وسهماً مسدَّداً في صدورهم،
ولكنّ سكّان الجزيرة لم يستسلموا للغزاة، ولم يفتحوا لهم بلادهم، بل تحصّنوا في العاصمة، ولم يخرجوا لمواجهة المسلمين، وكان أهل الجزيرة ينتظرون تقدّم الروم للدّفاع عنهم، وصدّ هجوم المسلمين عليها .
-------------------------
الاستسلام وطلب الصلح
تقدّم المسلمون إلى عاصمة قبرص (قسطنطينا ) وحاصروها وما هي إلا ساعات حتى طلب الناس الصلح، وقدّموا للمسلمين شروطاً، واشترط عليهم المسلمين شروطاً، وأما شرط أهل قبرص، فكان هي طلبهم ألا يشترط عليهم المسلمون شروطاً تورّطهم مع الروم، لأنهم لا قبل لهم بهم، ولا قدرة لهم على قتالهم، وأمّا شروط المسلمين، فهي :
●1 ـ ألا يدافع المسلمون عن الجزيرة، إذا هاجم سكانها محاربون.
●2 ـ أن يدلّ سكان الجزيرة المسلمين على تحركات عدوّهم من الروم
●3 ـ أن يدفع سكان الجزيرة للمسلمين سبعة آلاف ومئتي دينار في كل عام.
●4 ـ أن يكون طريق المسلمين إلى عدوّهم عليهم.
●5 ـ ألا يساعدوا الروم إذا حاولوا غزو بلاد المسلمين، ولا يُطلعوهم على أسرارهم .
وعاد المسلمون إلى بلاد الشام، وأثبتت هذه الحملة قدرة المسلمين على خوض غمار المعارك البحرية بجدارة وأعطت المسلمين فرصة المران على الدخول في معارك من هذا النوع مع العدوّ المتربص بهم سواء بالهجوم على بلاد الشام، أو على الإسكندرية
---------------------
عبد الله بن قيس قائد الأسطول الإسلامي في الشام
استعمل معاوية بن أبي سفيان على البحر عبد الله بن قيس الجاسيّ حليف بني فزج حليف بني فزارة فغزا خمسين غزاة ما بين شاتية، وصائفة في البحر، ولم يغرق فيها أحد، ولم ينكب، وكان يدعو الله أن يرزقه الله العافية في جنده، وألا يبتليه بمصاب أحد منهم،
حتّى إذا أراد أن يصيبه وحده، خرج في قاربه طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم وعليه سُؤَّال (*متسولون) يعترّون(*يتسولون) بذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السُّوَّال( المتسولين) إلى قريتها، فقالت للرجال : هل لكم في عبد الله بن قيس ؟ قالوا وأين هو ؟ قالت : في المرفأ،
قالوا : ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس ؟ فوبّختهم، وقالت : أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد فساروا إليه، فهجموا عليه، فقاتلوه، وقاتلهم، فأصيب وحده، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه، فجاؤوا حتى أرقوا، والخليفة منهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه، ويشتمهم،
فقالت جارية عبد الله : وا عبد الله ما هكذا كان يقول حين يقاتل ! فقال سفيان : وكيف كان يقول؟ قالت : الغمرات ثم ينجلينا وأصيب في المسلمين يومئذ، وذلك آخر زمان عبد الله بن قيس: الجاسيِّ .
وقيل لتلك المرأة التي استثارت الروم على عبد الله بن قيس: كيف عرفته؟
قالت: كان كالتَّاجر، فلمّا سألته، أعطاني كالملك، فعرفت أنه عبد الله بن قيس .
وهكذا يضرب قادة المسلمين المُثُل العليا بأنفسهم، لتتمَّ الإنجازات الكبرى على أيديهم، وليكونوا قدوة صالحة لمن يخلفهم، فقد قام هذا القائد الملهم بهمّة الاستطلاع بنفسه، ولم يكل الأمر إلى جنوده، وفي انفراده بهذه المهمة مظنة للتورط مع الأعداء، والهلاك على أيديهم، ولكنه مع ذلك يغامر بنفسه، فيتولىَّ هذه المهمة،
ثمّ نجده يتخلقَّ بأخلاق الإسلام العليا حتى مع نساء الأعداء، وضعفتهم فيمدُ لهم يد الحنان، والعطف، ويسخو لهم بالمال الذي هو من أعزِّ ما يملك الناس، ونجدة قبل ذلك مع جنده رفيقاً صبوراً، ولا معنِّفاً، ولا مستكبراً،
وإذا ادلهمِّت الخطوب، تفانى فى كشف الغّمة، ولم يلجأ إلى لوم أصحابه، وتعنيفهم، ولم يهيمن عليه الارتباك الذي يفسد العمل، ويعجِّل بالخلل، والفوضى، وأمَّا خليفته سفيان الأزديَّ، فلعلهَّ وقع فيما وقع فيه من الإرتباك، والاشتغال بطرح اللائمة على جنده لكونه حديث العهد بأمور القيادة،
ولكن مَّما يُحفظ له: أنَّه لما نبَّهته جارية عبد الله بن قيس إلى ذلك الأسلوب الحكيم الذي كان أميره ينتهبه في القيادة سارع في التأسي به في ذلك، ولم يحمله التكبُّر على عدم سماع كلمة الحقِّ، وإن صدرت من جارية مغمورة.
---------------------
القبارصة ينقضون الصلح
في سنة 32 هجرَّية، وقع سكان قبرص تحت ضغط رومي عنيف أجبرهم على إمداد جيش الرُّوم بالسُّفن، ليغزوا بها بلاد المسلمين، وبذلك يكون القبرصيون قد أخلوُّا بشروط الصلح، وعلم معاوية بخيانة أهل قبرص، فعزم على الاستيلاء على الجزيرة، ووضعها تحت سلطان المسلمين،
و هاجم المسلمون الجزيرة هجوماً عنيفاً، فقتلوا، وأسروا وسلبوا، وهجم عليها جيش معاوية من جهة، وعبد الله بن سعد من الجانب الآخر، فقتلوا خلقاً كثيراً، وسبوا سبياً كثيراً، وغنموا مالا جزيلاً ، وتحت ضغط القوات الإسلامية اضطر حاكم قبرص أن يستسلم للفاتحين ويلتمس منهم الصلح،
فأقرهم معاوية على صلحهم الأول ، وخشي معاوية أن يتركهم هذه المرة بغير جيش يرابط في الجزيرة، فيحميها من غارات الأعداء، ويضبط الأمن فيها حتى لا تتمرد على المسلمين، فبعث إليهم اثني عشر ألفاً من الجنود، ونقل إليهم جماعة من بعلبك، وبنى هناك مدينة، وأقام فيها مسجداً، وأجرى معاوية على الجنود أرزاقهم،
وظلّ الحال على ذلك، الجزيرة هادئة والمسلمون آمنون من هجمات الروم المفاجئة، ولاحظ المسلمون: أنّ أهل قبرص ليس فيهم قدرات عسكرية، وهم مستضعفون أمام من يغزوهم،
وأحس المسلمون : أن الروم يغلبونهم على أمرهم، ويسخّرونهم لمصالحهم فرأوا أن من حقهم عليهم أن يحموهم من ظلم الروم، وأن يمنعوهم من تسلطّ البيزنطيين.
وقال: إسماعيل بن عيّاش: أهل قبرص أذلاء مقهورون ويغلبهم الروم على أنفسهم، ونسائهم، فقد يحق علينا أن نمنعهم، ونحميهم .
--------------------
ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه
وقد جاء في سياق هذه الغزوة المذكورة خبر أبي الدرداء رضي الله عنه حينما نظر إلى سبي الأعداء فبكى، ثمّ قال: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه، فانظر إلى هؤلاء القوم بينما هم ظاهرون قاهرون لمن ناوأهم، فلما تركوا أمر الله ـ عز وجلّ ـ وعصوه، صاروا إلى ما ترى .
وجاء في روايةٍ: فقال له جبير بن نفير أتبكي وهذا يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ويحك: إن هذه كانت أمّة قاهرة لهم ملك، فلما ضيّعوا أمر الله، صيرّهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السّبي، فليس لله فيهم حاجة،
--------------------
معاوية يوليّ عبادة بن الصامت رضي الله عنهما على قسمة غنائم قبرص :
قال عبادة بن الصامت لمعاوية رضي الله عنهما : شهدت رسول الله عليه وسلم في غزوة حنين الناس يكلمونه في الغنائم، فأخذ وبرة من بعير، وقال: مالي مما أفاء الله عليكم من هذه الغنائم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم .
فأتق الله يا معاوية ! واقسم الغنائم على وجهها، ولا تعط منها أحداً أكثر من حقه ! فقال له معاوية : قد وليتك قسمة الغنائم، ليس أحد بالشّام أفضل منك، ولا أعلم، فاقسمها بين أهلها، واتق الله فيها، فقسمها عبادة بين أهلها، وأعانه أبو الدرداء، وأبو أمامة .
وعبادة بن الصامت رضي الله عنه من مؤسسي المدرسة الشامية فقد وجهه عمر إلى الشام قاضياً ومعلماً، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين فولي قضاءها، واستقر به المقام فيها، فكان أول من تولى قضاء فلسطين، وكان أيضا يعلم أهلها القرآن وظل على هذا النحو إلى أن مات بها ،
وقد أسهم عبادة رضي الله بنصيب كبير في تنفيذ سياسة الخلافة الراشدة العلمية والتربوية والجهادية، وكان رضي الله عنه من أهل الزهد والخشونة، فعندما وصل إلى حمص قال لأهلها:
"ألا أن الدنيا عرض حاضر، وإن الآخرة وعد صادق، ألا أن للدنيا بنين وإن للآخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها بنوها ."
---------------------------------------------------------------------
*تاريخ خليفة بن خياط ص155 ومابعدها..تاريخ الطبري ج5 ..الولاية على البلدان ج1 .الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، لحمدي شاهين.. حروب الإسلام في الشّام في عهود الخلفاء الراشدين ص252.عثمان بن عفان للصَّلابّي ص205 .. فتوح البلدان ص 187و مابعدها .. الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية ج2 .. البداية والنهاية ج7..البخاري رقم 2877 .... جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين صـ 356 وما بعدها . البلاذري ص 158 .. الرياض النضرة ص 561 .. عبادة بن الصامت ، صحابي كبير وفاتح مجاهد ص84.
* الدولة الأموية عوامل النهوض واسباب الإنهيار .الصلابي
ص52-44 .
وانظر سل السنان فى الذب عن معاوية بن أبي سفيان سعد بن ضيدان السبيعي و تاريخ الدولة الأموية محمد سهيل .
---------------------------------------------------------------------
حقيقة الخلاف بين أبي ذر ومعاوية وموقف عثمان رضي الله عنهم
تابعونا #الدولة_الأموية_جواهر [7]
إرسال تعليق