تاريخ السلاجقة والدانشمند ... (8)
--------------------------------------------------------------------
أصبح السلاجقة في عام 447ﻫ أكبر قوة في العالم الإسلامي خاصة بعد أن فرضوا سيطرتهم على بلاد فارس وتغلبوا على الغزنويين والبويهيين .
وتوغلوا داخل أراضي الدولة البيزنطية واصطدموا بجيش الروم وبذلك أعطوا دفعة قوية للجهاد ضد الروم الذين عاثوا فساداً أيام البويهيين في أراضي الخلافة العباسية لعدم قدرة الخلافة ولعدم اكتراث أمراء البويهيين بالجهاد .
تقرب السلاجقة من الخليفة العباسي وساندوه في الوقت الذي كانت الخلافة السنية تعاني تحت سيطرة أمراء البويهيين الشيعة و امتداد نفوذ الدولة العبيدية الباطنية التي نشأت في تونس وامتدت لمصر والحجاز للشام و نشطت الدعوة لها في بغداد .
صحب ذلك ظهور المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي داعية الفاطمية العبيدية في شيراز .
كانت الدولة الفاطمية تسعى للسيطرة على العراق والمشرق ولذلك قامت بإرسال الدعوة إليها، فقد واصل الخلفاء الفاطميون جهودهم في نشر دعوتهم مستغلين الاضطراب الذي ساد بلاد العراق بسبب النزاع بين أمراء بني بويه على السلطة وثورات الجند،
وتدخل قادتهم في تولية الأمراء وعزلهم فأرسل الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي الدعاة إلى بغداد سنة 425ﻫ ، فاستجاب لهم كثير من الناس
ولم يكتف المؤيد بنشر الدعوة في شيراز، بل سافر إلى الأهواز وأدخل في الأذان عبارة " حى على خير العمل " وأمر بإقامة الخطبة بها للخليفة الفاطمي المستنصر و تجاهل الخليفة العباسي.
---------------------------------------------------------------------
لكن لم تدم الخطبة على منابر الأهواز طويلاً للخليفة الفاطمي إذ أرسل قاضيها أبو الحسن عبد الوهاب بن منصور بن المشتري برسالة إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله يخبره بالأمر وأشار عليه أن يعمل على إيقاف الدعوة الفاطمية في بلاد فارس ...
فانفد الخليفة وزيره أبا القاسم بن المسلمة- رئيس الرؤساء إلى شيراز حيث التقى بالأمير كاليجار البويهي وسلمه رسالة الخليفة التي تضمنت التهديد بالاستعانة بالسلاجقة أن لم يقبض على المؤيد في الدين وإنفاذه مكبلاً بصحبة رئيس الرؤساء ، إلى بغداد ووقف النشاط الفاطمي في بلاده .
ولما علم المؤيد في الدين بما تضمنته الاتصالات بين الخليفة العباسي والأمير البويهي الذي كان يؤازره في نشر دعوته في بلاده رأى أن يترك بلاد فارس بعد انصراف أبي كاليجار عن تأييده وسار إلى الحلة بالعراق ونزل بدار الأمير منصور بن الحسن ...
وظل مقيماً هناك حتى رأى أبو كاليجار الذي كان يطمح في تولي السلطة في بغداد بعد وفاة أميرها جلال الدولة، أن يعمل على إبعاد المؤيد في الدين لإرضاء الخليفة العباسي،
فكتب إلى صاحب الحلة يخبره أن وجود المؤيد في بلده فيه خطر على دولة بني بويه طالباً إبعاده ويتجلى ذلك فيما جاء في رسالة أبي كاليجار إلى منصور بن الحسن :
{ إنك من الشفقة على ملكنا ودولتنا بحيث لا تعتمد لأحد هوادة فيه وقد عرفت صورة أبي فلان " المؤيد في الدين وهبة الله الشيرازي " ...
...وإننا كل يوم في صراع من جهة الديلم – الذين اعتنق كثير منهم الدعوة الفاطمية في بلاد فارس والعراق – باحتجاجات باطلة يتشبثون بها ظاهراً وهو مغزاهم وغرضهم منها باطناً، ثم إنه قامت رغبتنا في بغداد وامتلاكها ....
وليس يكاد يتم الغرض فيه إلا بالمجلس الخليفي الإمامي ( مواقعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي، إذا استقر به العالم أن هذا الإنسان مقيم بفناء حضرتنا على جملته كان ذلك ردحاً في وجه ما تؤثر بلوغه وحاجزاً بيننا وبينه وقد انتهى إلينا معاودة الأهواز،.....
فالله الله إن توجده سبيلاً إلى ذلك فإنه إن عاود وقعت فتنة نصلى بنارها صليا ً . }
اضطر المؤيد في الدين إلى الرحيل عن الحلة وأخذ في التنقل بين مدن العراق فسار إلى الكوفة، ثم اتجه إلى الموصل حيث أقام فترة قصيرة عند قرواش بن المقلد – أمير بني عقيل – وأخيراً رحل إلى مصر سنة 438ﻫ ، بعد أن أعرض عنه الجميع تحت وطأة المعارضة السنية وخوفاً من غضب الخليفة القائم بأمر الله العباسي ..
وعلى الرغم من رحيل المؤيد في الدين إلى مصر، إلا أن جهوده في نشر الدعوة الفاطمية ببلاد العراق تركت آثاراً خطيرة على الخلافة العباسية في عهد القائم بأمر الله،
إذ انضم إليها كثير من قادة الترك والديلم وهم الذين يمثلون عماد القوة التي تعتمد عليها البلاد في التصدي لأعداء الخلافة فظلوا يشجعون الدعوة الفاطمية ويقربون إليهم اتباعها
---------------------------------------------------------------------
ومن الدروس والفوائد المهمة من قصة المؤيد الشيرازي
● مكانته وقدره في الدعوة الفاطمية إلا أنه قام بالدور التنفيذي لمخططات الدعوة في المشرق بنفسه وتحمل مخاطر ومتاعب ومشاق مع أن دعوته قائمة على الضلال والبدع والخرافات، ومن باب أولى أن يقوم بمثل هذا الجلد والتفاني أصحاب الدعوة الإسلامية الصحيحة السائرة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين.
● تعاون فرق الشيعة فيما بينهم ومساندتهم لبعضهم وإيجاد قواسم مشتركة فيما بينهم تخدم تطلعاتهم وأهدافهم.
● يجب على أهل السنة أن يتعاونوا فيما بينهم من أجل نشر دعوة الله في المشارق والمغارب ويستعلوا على حظوظ النفس والخلافات الجزئية التي تعرقل مسيرة النهوض.
● أهمية التهديد واستخدام لغة القوة في التضييق على هبة الله الشيرازي ويظهر ذلك عندما هّدد الخليفة العباسي الأمير كاليجار البويهي بالاستعانة بالسلاجقة إذا لم يقبض على هبة الله الشيرازي وإرساله مكبلاً إلى بغداد ووقف النشاط الفاطمي في بلاده.
● خطورة التهاون بالحرب الثقافية والفكرية والعقائدية التي يشنها الباطنيون ضد أهل السنة والجماعة فلا بد من المواجهة المدروسة للقضاء على مشروعهم الخبيث الذي يستهدف إضلال الناس وإخراجهم عن دين الله ومواجهة الفتنة في بدايتها أسهل بكثير من بعدما تتغلغل.
---------------------------------------------------------------------
فتنة البساسيري في العراق : 450 ﻫ
كان البساسيري من القواد المقربين من الخليفة العباسي إلا أن الدعوة الفاطمية تغلغلت بين الناس وأثرت في بعض الأعيان والقواد...
وممن تأثر بهذه الدعوة قائد قواد الجند التركي أبو الحارث إرسلان البساسيري بدعوة هبة الله الشيرازي وأصبح يكاتب الفاطميين ويعمل على قلب نظام الحكم في بغداد لصالح الدولة الفاطمية ...
وتدهورت العلاقات بين الخلافة والبساسيري حين علم البساسيري بالاتصالات السرية التي كانت تجري بين الخليفة القائم بأمر الله والسلاجقة وبخاصة مكاتبة الخليفة لهم بالمسير إلى العراق، ...
فترك البساسيري بغداد وسار إلى واسط، فانتهز الوزير رئيس الرؤساء الفرصة وأخذ يوغر صدر الخليفة القائم بأمر الله من ناحية البساسيري وأخبره بأن البساسيري يكاتب أعداء الخلافة ويعمل على خلعه من الخلافة ..
وفي الوقت نفسه حرض الأتراك والعامة على الاعتداء على أملاك البساسيري في بغداد بعدما ظهرت ميوله الشيعية وظهرت نواياه السيئة للخلافة العباسية وأهل السنة فقاموا بنهب داره والاستيلاء على ممتلكاته سنة 447ﻫ، ...
وفضلاً عن ذلك، أخذ رئيس الرؤساء يؤلب الأترك البغداديين على قائدهم البساسيري واتهامه بأنه المتسبب في نقص رواتبهم وسوء أحوالهم فسار جماعة منهم إلى الخليفة القائم بأمر الله واستأذنوه في نهب دور البساسيري فأذن لهم في ذلك ،...
فلما تأكد من صحة ما نسب إلى البساسيري أذن لهم في ذلك خاصة بعد أن قدم إليه طائفة من الأتراك من أصحاب البساسيري بواسط وأخبروه بما عزم من نهب دار الخلافة والقبض على الخليفة
إن فتنة البساسيري تعطيناً درساً بليغاً في أهمية الاعتناء بالقادة العسكريين والوزراء السياسيين وأهل الفكر والرأي العام وتربيتهم على هدي القرآن الكريم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفقه الخلافة الراشدة حتى لا يقعوا ضحايا للدعوات المنحرفة والمناهج الضالة والعقائد الفاسدة.
---------------------------------------------------------------------
التواصل بين البساسيري والمؤيد هبة الله الشيرازي
اتخذ البساسيري من الرحبة مركزاً للاتصالات مع الفاطميين، ذلك أن المؤيد الشيرازي كان يتابع أحداث العراق، وبخاصة أنه وقف على المكاتبات التي تبودلت بين الخليفة القائم بأمر الله والسلطان السلجوقي وأدرك مدى خطورتها على الخلافة الفاطمية، ....
فعول الشيرازي على الاستفادة من الموقف المتدهور بين الخلافة والبساسيري وأصحابه، فأنفذ إليهم كتباً تضمنت تأييد الخليفة الفاطمي وحكومته لهم واستعدادهم لمدهم بالسلاح والمال، فوصلت إليهم هذه الكتب قبيل رحيلهم إلى واسط، فزادت من ثقتهم بأنفسهم وقويت شوكتهم..
ورد البساسيري على مكاتبات الفاطميين برسالة بعث بها إلى المؤيد في الدين شكره فيها على اهتمامه بحركتهم وتأييدهم له ولاتباعه والتمس منه الإمداد السريع بالمال والخيل والسلاح لإظهار الدعوة الفاطمية ببلاد العراق قائلا :
{ فإن أخذتم بأيدينا، أخذنا لكم البلاد وأن قلدتمونا نجاد نصركم وإنجادكم فتحنا من جهتكم الأغوار والأنجاد } ،
وقد أظهر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي اهتماماً كبيراً برسالة البساسيري وعمل على تدبير الإمدادات اللازمة لإنجاح حركته على الرغم مما كانت تعانيه مصر من غلاء وأزمة اقتصادية ، (*مايعرف بالشدة المستنصرية)
فلما أتم إعداد الأموال والخلع والسلاح، عهد إلى المؤيد في الدين الشيرازي بحملها إلى البساسيري ، فسار على رأس عدد من الرجال ومعهم خمسمائة ألف دينار ومن الثياب ما قيمته مثل ذلك وخمسمائة فرس وعشرة آلاف قوس ومن الرماح والنشاب شيء كبير .
---------------------------------------------------------------------
الجهود التي بذلها المؤيد هبة الله الشيرازي لدعم فتنة البساسيري
لما وصل المؤيد في الدين إلى دمشق وهو في طريقة إلى الرحبة، رأي أن يستعين بمثال بن صالح بن مرداس – صاحب حلب – لإمداده بالرجال ولتأمين وصول الإمدادات الفاطمية إلى البساسيري، وأصحابه ...
فكتب إليه بالمهمة التي عهد إليه بها، ثم ما لبث أن التقى المؤيد بمثال ابن صالح في الروستان . فسلم المؤيد في الدين الأحمال إلى الأمير ثمال ليكون في حمايته ، ثم سار إلى معرة النعمان حيث وفد إليهما فريق من أصحاب البساسيري لأصطحابهم إلى الرحبة ...
وخلال ذلك تلقى المؤيد في الدين خطاباً من نصر الدولة بن مروان – صاحب ديار بكر وميافارقين يعلن فيه خلع طاعة السلاجقة والدخول في طاعة الفاطميين معتذراً عن إقامة الخطبة للسلاجقة على منابر بلاده خوفاً من بطشهم ..
وسار المؤيد هبة الله الشيرازي بصحبته الأمير ثمال بن مرداس على رأس جنده قاصداً الرحبة، فلما اقترب منها خرج لاستقباله البساسيري على رأس جيشه فالتقى بهم على بعد مرحلتين من المدينة وأظهر أسمى آيات الشكر والترحيب بمبعوث الخليفة الفاطمي،..
وقام المؤيد من جانبه بتوزيع الخلع الفاطمية على البساسيري وأصحابه ومنحهم الأموال وأخذ البيعة منهم بالطاعة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي .
ثم قام المؤيد وتقدم إلى أبي الحارث البساسيري وخلع عليه الخلعة الخاصة التي أرسلها الخليفة الفاطمي إليه وقرأ عهده ،...
ولم يكتف المؤيد هبة الله الشيرازي بما حققته الدعوة الفاطمية من انتصارات كبيرة في بلاد العراق تجلت في انضمام كل من البساسيري ونصر الدولة بن مروان، وعدد كبير من القادة والجند والديلم والأتراك، بل أخذ في العمل على جذب أمراء العراق إلى دعوته،
فكتب إلى دبيس بن مزيد- أمير الحلة – يطلب منه اللقاء في الرعية، فلما التقى به هناك، استطاع أن يستميله للدعوة الفاطمية، وطلب منه الانضمام إلى البساسيري في مسيرة إلى العراق، وذلك بعد أن قلده رئاسة غرب العراق وجعل له حكم ما يفتحه من البلاد بعهد من الخليفة المستنصر بالله الفاطمي ولقبه " الأمير سلطان ملوك العرب، سيف الخلافة، صفي أمير المؤمنين .
كان لنجاح المؤيد في الدين ضم أمراء الأطراف إلى جانب القائد التركي أبي الحارث البساسيري أثر كبير في انتصاره على قوات السلاجقة ومن انضم إليهم من أصحاب قريش بن بدران – صاحب الموصل – في موقعه سنجار سنة 448ﻫ ، والتي كان من نتائجها انحياز قريش بن بدران إلى جانب البساسيري وإقامة الخطبة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي على منابر الموصل،
كما انضم محمود بن الأخرم – أمير خفاجة – إلى الدعوة الفاطمية وأقام الخطبة على منابر الكوفة للخليفة الفاطمي ،
أما أمير واسط علاء الدين أبو الغنائم بن المحلبان فقد خلع طاعة الخليفة القائم بأمر الله وخطب للمستنصر بالله الفاطمي، وأمر أن تصبغ مساجد واسط للون الأبيض – شعار الفاطميين ،
وفضلاً عن ذلك ضرب النقود باسم الخليفة الفاطمي في واسط، مما ترتب عليه إصدار الخليفة القائم بأمر الله محضراً آخراً بالطعن في نسب الفاطميين سنة 448ﻫ ، محاولاً بذلك التصدي للدعوة الفاطمية
وعلى الرغم من الانتصارات التي حققتها الدعوة الفاطمية في مدن العراق فإن جهود عميد الملك الكندري – وزير السلاجقة في العمل على تفريق شمل أمراء العرب، أدت إلى اختلاف كلمة هؤلاء الأمراء وعدولهم عن معاونة البساسيري ،
بل واضطر البساسيري واتباعه إلى العودة إلى الرحبة، ثم ما لبث أن سار نحو حلب حيث التقى بالمؤيد في بالس – على مقربة من حلب ، ..
وعهد المؤيد هبة الله الشيرازي إلى البساسيري وقريش بن بدران بمواصلة نشر النفوذ الفاطمي في بلاد العراق، فطلب إليهما العودة إلى الرحبة على أن يتجه قريش إلى الموصل لاستعادتها بعد أن علم بخروج إبراهيم ينال عنها،
ثم سار إلى مصر حتى يتسنى له إرسال الإمدادات إليهما ، فقام البساسيري وقريش بن بدران بالمسير إلى الموصل، وتمكنا من دخولهما والاستيلاء عليها سنة 450ﻫ ،
ولما علم السلطان السلجوقي طغرل بك بانتزاع الموصل منه سار إليها بصحبة أخيه إبراهيم ينال، فلما اقتربا منها فارقها كل من البساسيري وقريش بن بدران، غير أنه سار في أثرهما فاتحا إلى نصيبين ليتتبع أثارهم ويخرجهم من البلاد الذين يستولون عليها، ..
وبينما هو في طريقه انصرف عنه أخوه ينال وسار إلى همذان بعد أن استولى على أموال أخيه فوصلها في أواخر رمضان سنة 450ﻫ مما اضطر طغرل بك إلى تتبع أثره للقضاء على فتنته فتم له ذلك في جمادى الآخرة من العام نفسه ..
ومن الدروس في هذا المجال أن من يخون ثم يعفى عنه علينا أن نجرده من مصادر القوة ومراكز القيادة لإمكانية الغدر من جديد وهذا ما فعله إبراهيم ينال حيث خرج مرّة ثانية وأشغل طغرل بك واستفاد من هذا الخروج الشيعة الفاطميون العبيديون.
---------------------------------------------------------------------
استيلاء البساسيري على بغداد وإقامة الخطبة فيها للفاطميين
أدى خروج إبراهيم ينال على طاعة أخيه ومسير طغرلبك في أثره لمحاربته إلى خلو بغداد من الحامية السلجوقية مما أتاح للبساسيري الفرصة للاستيلاء على حاضرة الخلافة العباسية وإقامة الخطبة فيها للفاطميين ...
فزحف إليها على رأس أربعمائة فارس، حاملاً الرايات الفاطمية التي طرزت باسم " الإمام المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين" ، وتبعه خليفة قريش بن بدران على رأس مائتي فارس من بني عقيل، ..
وأقيمت الخطبة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي بجامع المنصور في يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة سنة 450ﻫ وزيد في الأذان : حي على خير العمل
وانقطعت دولة بني العباس من بغداد وأخرج الخليفة وحُمل إلى الأنبار وحبس بالحديثة ، عند صاحبها مهارش بن مجلي العقيلي، فتولى خدمة الخليفة بنفسه وكان أحد وجوه بني عقيل،
وخطب لبني عبيد – الفاطميين، في بغداد أربعين جمعه في ولاية المستنصر .
وحاول البساسيري نقض الاتفاق الذي عقده مع قريش بن بدران وعزم على أخذ الخليفة العباسي وترحيله إلى مصر
إلا أن قريشاً تصدى لهذه المحاولة وعهد إلى ابن عمه الأمير محي الدين بن مهارش العقيلي – صاحب حديثة بالتحفظ على الخليفة وتأمين حياته، بعد أن استنجد به الخليفة قائلاً :
{ عرفت ما استقر العزم عليه من إبعادي عنك وإخراجي من يديك ،وما سلمت نفسي إليك إلا لما أعطيتني الذمام الذي يلزمك الوفاء به، وقد دخلت إليك ووجب لي ذمام عليك، فالله الله في نفسي، فمتى سلمتني أهلكتني وضيعتني ما ذلك معروف في العرب } .
وعلى الرغم من ذلك فلم يسمح البساسيري للخليفة القائم بأمر الله بالرحيل إلى الحديثة إلا بعد أن أرغمه على كتابة اعتراف بعدم أحقية بني العباس في الخلافة الإسلامية مع وجود بني فاطمة الزهراء عليها السلام
ولم يكتف البساسيري بذلك بل أستولى على ثوب الخليفة وعمامته وشباكه ، وأنفذها إلى الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، أما عن أقارب الخليفة، فقد أذكى البساسيري عليهم العيون وشدد في البحث عنهم، إلا أنهم صاروا يتنقلون من مسجد إلى آخر هرباً منه ثم لجاءوا إلى أبي الغنائم بن المحلبان .
---------------------------------------------------------------------
مقتل رئيس الرؤساء ، أبو القاسم بن المسُلمة والانتقام من أهالي بغداد
كان البساسيري قد شرع في استخدام طائفة من العوام ودفع إليهم السلاح من دار المملكة، وكان البساسيري قد جمع العيّارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة ونهب أهل الكرخ – الشيعة – دور أهل السنة بباب البصرة،..
ونهبت دار قاضي القضاة الدَّمغانيَّ، وهلك أكثر السَّجلاَّت والكتب الحكيمة، وأبيعت للعطارين، ونُهبت دور المتعلقين بالخليفة،
وأعادت الرَّوافض الأذان بحيَّ على خير العمل، وأُذَّن به في سائر جوامع بغداد في الجُمُعات والجماعات، وخطب ببغداد وضربت له السَّكةُ على الذهب والفضة
وحُوصرت دار الخلافة فدافع الوزير أبو القاسم بن المسلمة المُلقَّبِ برئيس الرؤساء بمن معه من المستخدمين دونها، فلم يُفد ذلك، فركب الخليفة بالسَّواد والبُردة على كتفيه، وعلى رأسه اللواء وبيده سيف مُصلتُ،
وحوله زمرة من الهاشميين والجواري حاسرات عن وجُوههن، ناشرات شعورهن، معهن المصاحف على رُءُوس الرماح وبين يديه الخدم بالسيوف المُسَللةِ،..
ثم إن الخليفة أخذ ذِِماماً من أمير العرب قريش بن بدران لنفسه وأهله ووزيره ابن المُسلمة فأمَّنه على ذلك كلَّه، وأنزله في خيمة، فلامه البساسيري على ذلك، وقال :
{ قد علمت ما كان وقع الاتفاق بيني وبينك من أنك لا تستبد برأي دوني، ولا أنا دونك، ومهما ملكنا فبيني وبينك،}
واستحضر البساسيري أبا القاسم بن مسلمة فوبّخة ولامه لوماً شديداً، ثم ضربه مبرحاً، وأعتقله مهاناً عنده، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يُحصَى ما أخذوا منها من الجواهر والنَّفائس والدَّيباج والأثاث والثياب، وغير ذلك مما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ
وفي يوم عيد الأضحى من سنة 450 ﻫ ألبس البساسيري الخطباء والمؤذنَّين البياض، وعليه هو وأصحابه كذلك، وعلى رأسه الألوية المستنصرية والمطارد المصرية، وخطب للمستنصر الفاطمي صاحب مصر، والرَّوافض في غاية السرور والأذان في سائر بلاد العراق بحيَّ على خير العمل،
وانتقم البساسيريُّ من أعيان أهل بغداد انتقاماً عظيماً، وغرَّق خلقا ممّن كان يعاديه، وبسط على آخرين الأرزاق والعطايا...
ولما كان يوم الاثنين ليلتين بقيتا من ذي الحجة أُحضر إلى بين يديه الوزير أبو القاسم بن المسلمة المُلقَّبُ برئيس الوزراء وعليه جُبَّةُ صوف، وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مِخنقة من جلود كالتعاويذ، فأُركب جملاً ، وطيف به في البلد وخلفه من يصفعه بقطعه من جلد،
وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خُلقْان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبُّوه وهذه هي عادتهم عندما يتمكنون من مخالفيهم في كل زمان ومكان،
وأُوقف بازاء دار الخلافة، وهو في ذلك يتلو قوله تعالى : "قُل اللهم مالك الملك تُؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتُعزُّ من تشاء وتُذلُّ من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قدير" (آل عمران : 16).
فالبس جلد ثور بقرنيه وعُلَّق بكلوّب في شِدْقيه، ورفع إلى الخشبة حيَّاً، فجعل يضطرب إلى آخر النهار،
فمات رحمه الله، وكان آخر كلامه أن قال : الحمد لله الذي أحياني سعيداً وأماتني شهيداً .
وكان هذا الوزير قد سمع الحديث من أبي أحمد الفَرَضيَّ وغيره، ثم كان أحد المعَدَّلين، ثم استكتبه الخليفة القائم بأمر الله واستوزره ولقَّبهَ رئيس الرؤساء، شرف الوزراء، جمال الورى،
وكان متضلعاً بعلوم كثيرة مع سداد رأي ووفور عقل، وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة وشهراً ولما قتل كان له من العمر ثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر .
----------------------------------------------------------------------
* سيرة المؤيد في الدين ص 73، 74.، 57.
* الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق الإسلامي في عهد الخليفة القائم بأمر الله ص 67.
* المختصر في أخبار البشر (2/182).
*الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق ص 69.
* ديوان المؤيد في الدين ص 41 – 42.
الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق ص 70.
* النجوم الزاهرة (5/12).
* الروستان : موضع يلي حمص على جسر نهر العاصي.
* سيرة المؤيد في الدين ص 107 ، 108.
* الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق ص 70.
* ديوان المؤيد في الدين ص 42، 43.
* سيرة المؤيد في الدين ص 121 – 124.
* الإشارة إلى من نال الوزارة ص 44.
* الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق ص 72.
* سيرة المؤيد في الدين ص 176.
* الكامل في التاريخ نقلاً عن الأحوال السياسية والدينية ص 73.
* المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (8/202).
* الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق ص 73.
* تاريخ بغداد (9/400-401).
* أخبار الدولة المنقطعة للأزدي (2/427).
* البداية والنهاية (15/757).
* أخبار الدول المنقطعة للأزدي (3/430).
* المختصر في أخبار البشر (2/177-178).
* الخطط للمقريزي (1/439).
* الشباك : هو الشرفة التي يجلس فيها الخليفة ويتوكأ بيديه على حافته.
* الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق ص 75.
* البداية والنهاية (15/756 ، 757).(15/759). (15/763).
☆ دولة السلاجقة الصلابي ص 54-61
إرسال تعليق