تاريخ الدولة الأموية (16)
التحقيق في مسألة القتال في موقعة الجمل و صفين(36-37ه)
استعرضنا فيما مضي أحداث الفتنة و معركة صفين و عرضنا ماكتب عنها من تعليقات مضمنة أقوال الأئمة الكبار من خلال ما كتب الدكتور على الصلابي و قد وضحت لنا رؤيته ولا نعلق عليها ﻷن تعليقنا لن يزيد القارئ شيئا على ما فهمه منها ولأنه رجل أكثر منا علما واطلاعا بمراحل كثيرة..
وكنا قد وعدناكم بعرض تعليقات لباحثين آخرين و هذا البحث للدكتور الجزائري خالد كبير علال وعنوانه كما أشرنا في الفقرة السابقة : قضية التحكيم في موقعة صفين بين الحقائق والأباطيل .
ولسنا نفرض على الناس رأيا أو اتجاها معينا ولكننا نحاول استقراء الحقائق من خلال دراسات متعدده...
وكما قلنا بالأمس سنعرض إن شاء الله أيضا رؤية ثالثة من خلال كتاب الدكتور راغب السرجاني قصة الفتنة .
والآن مع كتاب الدكتور خالد علال ...
---------------------------------------------------------------------
أولا : التحقيق في مسألة القتال في موقعة الجمل و صفين(36-37ه)
عندما عزم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه على قتال أهل الشام ،و سمع أن طلحة و الزبير و عائشة –رضي الله عنهما – و معهم أهل مكة ، قد توجّهوا إلى البصرة ، أسرع ليسبقهم إليها . ...
فلما التقى الطرفان هناك ، جرت بينهما مساع توّجت بالصلح ، لكن قتلة عثمان افسدوا عليهم صلحهم ،و دفعوهم إلى الاقتتال ، فتقابلت الطائفتان المؤمنتان في موقعتي الجمل-بالبصرة- ،و صفيّن-على شاطئ نهر دجلة شرق بلاد الشام- ،
فكانت حصيلة القتلى بين الجانبين ، اكثر من 60 ألفا ، حسب ما ذكرته الروايات التاريخية . (*1)
فما هو سبب هذا القتال ؟ و ما هي مواقف الصحابة منه ؟ .
أولا : سبب القتال في موقعتي الجمل و صفيّن
يعتبر الخلاف في قضية قتلة الخليفة عثمان-رضي الله عنه- هو السبب في حدوث القتال بين المسلمين في موقعتي الجمل و صفيّن ،..
فأهل الشام طالبوا بالاقتصاص من قتلة عثمان و جعلوه شرطا لبيعة علي بن أبي طالب .
و أهل مكة استنفروا الناس و جمعوهم ، للمطالبة بدم الخليفة المقتول .
لكن الإمام علي رضي الله عنه خالف هؤلاء ، و كان يرى ضرورة تأخير القصاص من قتلة عثمان ، و أصر على موقفه ،و على استخدام القوة تجاه من خالفه فلم يبايعه (*2) .
و كان كبار الصحابة بالمدينة المنورة قد طلبوا من الإمام علي رضي الله عنع إقامة الحدود للأخذ بدم أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، فاعتذر بعدم قدرته على تنفيذها الآن .
و عندما طلب منه الزبير و طلحة –رضي الله عنهما – أن يولي أحدهما- الزبير- على الكوفة و الآخر على البصرة ، ليأتيانه بالجنود من هاتين المدينتين ، فيتقوّى بهم على قتلة عثمان و جهلة الأعراب الذين معه ، قال لهم : مهلا حتى أنظر في الأمر . (*3)
و رأيهما هذا وجيه و جدير بالأخذ ، فلو تبناه الإمام علي –رضي الله عنه- لكان في مقدوره أن يضع به حدا لدعاة الفتنة و يقتص به منهم .
لكن عليا أمير المؤمنين رضي الله عنه لم يستجب لهما فكان ذلك - على ما يبدو - هو السبب الذي دفعهما إلى استئذان علي بن أبي طالب للخروج إلى مكة المكرمة ، فالتحقا بها و هناك جمعا الناس للمطالبة بدم عثمان .
و يرى الباحث أبو الأعلى المودودي ، أن قرار علي بن أبي طالب رضوان الله عليه بتأخير القصاص من قتلة عثمان كان صوابا ، لأن تطبيقه مباشرة قد يؤدي إلى تعصب القبائل لهم . (*4)
نعم قد تكون المصلحة في تأخير القصاص لدفع شر هؤلاء ، ريثما يتمكّن منهم . لكن يجب أن لا ننسى أن الاقتصاص من هؤلاء المجرمين واجب شرعي ..
(ابن تيمية: المصدر السابق دج3 ص:201) ،
و أنه مما لا شك فيه-أيضا- أن مقاتلة المطالبين بدم عثمان ليس بالأمر الهين و ليس هو بالأمر المحبذ شرعا و لا عقلا ، فهم يطالبون بمطلب شرعي ، و عددهم كبير جدا - و من ورائهم قبائلهم - ...
فمجموع قتلة عثمان لا يزيد عن : 2500 شخص ، في حين عدد جيش هؤلاء أكثر من 30 الف جندي . (*5)
لذا كان على الإمام علي –في موقفه من قتلة عثمان- ان يسعى لإضعافهم ،و يخطط للاقتصاص منهم ، رضي الله عنه
لكن الذي حدث هو أنه عندما اتخذ قرار قتال أهل الشام –و هو في صالح المجرمين - كانوا في جيشه و حاربوا معه ، فساهم هو – من حيث يدري او لا يدري – في تقوية شوكتهم ،و توفير الحماية لهم ، ...
و هم بدورهم عزّزوا مواقعهم في عسكره ،و صار بعضهم من كبار قادته ، كالأشتر النخعي ،و حكيم بن جبلة . (*6)
فأصبح من الصعب جدا عل الإمام علي أن يقتص منهم ، و التاريخ شاهد على أنه لم يقتص منهم .
ثانيا : تباين مواقف الصحابة من القتال
تباينت مواقف الصحابة من القتال في موقعتي الجمل و صفيّن تباينا واضحا ، فمنهم من اعتزل الفتنة كلية ، و منهم من قاتل مع أهل العراق ، و منهم من قاتل مع أهل مكة و الشام ...
فالذين اعتزلوا القتال كان عددهم كبيرا ، منهم :عمران بن حصين ، و سعد ابن أبي وقاص ،و أسامة بن زيد ،و محمد بن مسلمة ، و عبد الله بن عمر ، و أبو هريرة ، و ابو موسى الأشعري ،و سعيد بن زيد ، و عبد الله بن مغفل ،و ابو برزة السلمي ،و زيد بن ثابت –رضي الله عنهم – (*7)
و هؤلاء يحبون عليا و يوالونه و يقدمونه في الخلافة- بعد عثمان - لكنهم خالفوه في موقفه من القتال ، فقد اعتقدوا أنه قتال فتنة ، ليس بواجب و لا بمستحب ،...
و كانت معهم نصوص حديثية سمعوها من رسول الله –عليه الصلاة و السلام - تحذّر من المشاركة في الفتنة ، القاعد فيها خيّر من القائم ،و القائم فيها خيّر من الماشي ، و الماشي خيّر من الساعي .(*8)
و كان الصحابي عمران بن حصين –رضي الله عنه –يحث على اعتزال الحرب ،و ينهي عن بيع السلاح ، و يقول : هو بيع السلاح في الفتنة .(*9)
وأما أبو موسى الأشعري –رضي الله عنه- فكان يجمع الناس و يحذرهم من المشاركة في الفتنة و يثبطهم عن القتال ،و يذكّرهم بما سمعه من الرسول –عليه الصلاة و السلام – في اعتزال الفتنة ..
(الطبري : المصدر السابق ج3ص: 26،28،37ن38 ) .
و يروى أنه عندما التقى أسامة بن زيد بالإمام علي- رضي الله عنهم –قال له علي :
ما كنا نعدك إلا من أنفسنا يا أسامة فلم لا تدخل معنا ؟
فقال أسامة : يا أبا الحسن انك و الله لو أخذت بمشفر- شفة- الأسد لأخذت بمشفره الآخر حتى نهلك جميعا ، أو نحيا جميعا ، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه ، فو الله لا أدخل فيه أبدا ..
(الذهبي : المصدر السابق ج2ص:360-361) .
و عندما انطلق علي بن أبي طالب لمحاربة أهل الشام اعترض له الصحابي الجليل عبد بن سلاّم –رضي الله عنه- الطريق و نصحه بالرجوع عن قرار القتال ، فلم يسمع له ....
و لما لم تعجب نصيحته بعض أصحاب علي ، سبّوه ، فقال لهم علي: دعوه فنعم الرجل من أصحاب النبي –صلى الله عليه و سلم- .(*10)
و أما عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- فقد حرص على ألا يقترب من الفتنة أبدا ، و ألا يكون سببا في قتل أحد ...(*11)
فعندما بويع الإمام علي بالخلافة –بالمدينة المنورة- كلّف ابن عمر بالسيّر إلى بلاد الشام ، فأبى و أصرّ على موقفه ، و وجد حلا لنفسه بأن هرب إلى مكة ..
( الذهبي: المصدر السابق ج3 ص: 224 ، 228) .
و روي أن الإمام علي كان يغبط ابن عمر ،و سعد بن أبي وقاص في موقفهما من الفتنة ، بقوله : ( لله منزل نزله عبد الله بن عمر ،و سعد بن مالك-ابن أبي وقاص- لئن كان ذنبا لصغير مغفور ، و لئن كان حسنا إنه لعظيم مشكور ) .(*12)
و كان الصحابي أهبان بن صفي البصري يردد –في اعتزاله للفتنة- حديثا قال له فيه الرسول –عليه الصلاة و السلام-: ( في الفتنة اتخذ سيفا من خشب ) رواه احمد و الترمذي .
و يروى أنه عندما التقى بعلي بن أبي طالب و عاتبه على عدم الانضمام إليه ، ذكر له الحديث السابق ، فتركه و حثه على طاعة ما أوصاه به رسول الله ..
(ابن عبد البر :المصدر السابق ج1ص: 205 ) ،
و عندما قيل للصحابي محمد بن مسلمة الأنصاري-رضي الله عنه- : ألا تخرج للنهي و الأمر ؟ قال : قال لي الرسول –صلى الله عليه و سلم- ستكون فرق و فتنة و اختلاف ، فأكسر سيفك ، و اقطع وترك ،و اجلس في بيتك .
و هذا الصحابي هو الذي قال فيه رسول الله : ( لا تضرّه الفتنة ) .. رواه ابو داود . (*13)
و عندما أرسل علي رضي الله عنه للصحابي الحكم بن عمرو الغفاري - رضي الله عنهما - يطلب منه الانضمام إليه في حربه لأهل الشام ، رد عليه بقوله :
( إني سمعت رسول الله –صلى الله عليه و سلم-يقول : إذا كان الأمر هكذا اتخذ سيفا من خشب ) ..
( الذهبي : المصدر السابق –ط مصر ج 2 ص: 340 ) .
و كاد الصحابي جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه –أن يدخل في الفتنة ثم تراجع و اعتزلها ، و كان يقول : لا أقاتل من يقول لا إله إلا الله ...(*14)
و عندما ندب علي رضي الله عنه أهل المدينة للخروج معه للقتال ، لم يوافقوه و أبوا الخروج معه ؛ فكلّم عبد الله بن عمر شخصيا للخروج معه ، فقال له : أنا رجل من المدينة .
ثم كرر عليهم دعوته للسيّر معه عندما سمع بخروج أهل مكة إلى البصرة ، فتثاقل عنه أكثرهم ، و استجاب له مابين 4 إلى سبعة من البدريين ...
(ابن كثير : المصدر السابق ج7ص:231،234) .
و أما الصحابة الذين قاتلوا مع أهل العراق ، ففي مقدمتهم : علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود ، و عمار بن ياسر، و سهل بن حنيف ، و عثمان بن حنيف ، و الحسن و الحسين ،و جابر بن عبد الله ، و عديّ بن حاتم ، و خوات بن جبير، -رضي الله عنهم - .(*15)
فبخصوص الإمام علي رضي الله عنه، فإنه قد أعلن لجنده ان موقفه في قتاله لأهل الشام هو مجرد اجتهاد شخصي ، رأى فيه انه يحقق الطاعة و وحدة الجماعة ، و لم يدع ان معه نصوصا سمعها من رسول الله –عليه الصلاة و السلام- . (*16)
و قد كان أمامه عدة خيارات لتذليل الصعاب التي واجهته ، منها : أن ابنه الحسن نصحه بالبقاء في المدينة و لا يغادرها حتى تصله بيعة كل الأمصار .
(ابن كثير :المصدر السابق ج7ص:230،231) .
و في هذه الحالة كان بإمكانه أن يكثف اتصالاته مع أهل الشام لوضع خطة مشتركة للاقتصاص من قتلة عثمان أولا ، ثم بعد ذلك يكون الاتفاق السلمي بين الطرفين بعد زوال مبرر امتناع المطالبين بدم عثمان كشرط للبيعة .
و من تلك الخيارات -أيضا- أن الصحابيين طلحة و الزبير-رضي الله عنهما - قد اقترحا عليه - أي على علي- ان يعينهما واليين على البصرة والكوفة ليأتيانه بالعساكر منهما ، فيتقوى بهم على قتلة عثمان ، فيقتص منهم و يقطع دابرهم ، و لا يبقى لأهل الشام حجة في عدم بيعتهم له .
و كان في مقدوره - أيضا - ان يرسل –مثلا- من يثق فيهم إلى الأمصار ليأتوه بالجنود ، فيتمكن بهم من وضع حد لشرذمة من المجرمين لا يزيد عددهم عن 2500 فرد _
( ابن كثير :" المصدر السابق ج7ص: 238 و ما بعدها ) .
مع العلم أن قتال هؤلاء كما هو واجب ، فهو أيضا أولى و أسهل من قتال أهل الشام ؛ لكن الإمام علي اتبع خيارا آخر ، لاعتقاده أن حل قضية أهل الشام هي أسبق من قضية الاقتصاص من قتلة عثمان ،....
فجاء رأيه موافقا لرأي رؤوس الفتنة الذين حسّنوا له الخروج إلى العراق ، و قد حذّره عبد الله بن عباس من موافقة هؤلاء ، لكنه طاوعهم و لم يسمع له . (*17)
ظنا منه أن القتال تحصل به الطاعة و الجماعة ، لكن الأمر انعكس تماما ، فزاد الأمر شدة ، و تفرّقت الأمة ،و ضعف جانب علي ،و تقوى جانب من قاتله في نهاية الأمر ..
( ابن تيمية: المصدر السابق ج4ص: 121) .
كل ذلك جعله -في نهاية المطاف- يظهر ندمه على ما حصل ،و يسارع إلى قبول وقف القتال في موقعة صفّين (سيلي شرحه) و يغبط الذين اعتزلوا الفتنة (*18)
و أشير هنا إلى أنه وجد من الصحابة من كان في معسكر الإمام علي ، و لم يكن موافقا له في قتاله لأصحاب الجمل و أهل الشام ، منهم :
إبنه الحسن- رضي الله عنه - ، فقد كان كارها للقتال ، و عندما تأهب والده للخروج قال له : يا أبتي دع هذا ، فإن فيه سفكا لدماء المسلمين ،و اختلاف بينهم ، فلم يقبل منه و صمم على القتال ..
( ابن كثير : البداية ج 7ص: 230)
ثم كرر له النصيحة عندما انطلق في المسير للقتال ، فلم يستجب له ، و مع ذلك خرج معه و هو كاره للقتال ، لذلك وجدناه عندما تولى الخلافة -بعد والده - صالح معاوية بن أبي سفيان-رضي الله عنهما- و تنازل له عن الخلافة .(*19)
و منهم أيضا الصحابيان عبد الله بن عباس ،و عقبة بن عمرو البدري الأنصاري -رضي الله عنهما-...
فالأول (*إبن عباس) نصح عليا بعدم الخروج للقتال ،و حذّره من موافقة رؤوس الفتنة الذين حسّنوا له الخروج إلى العراق من أجل القتال ، فلم يستجب له ...
( ابن كثير: المصدر السابق ج 7ص: 229 ) .
و الثاني(*عقبة) كان واليا لعليّ على الكوفة ، فلما نشب القتال في موقعة صفين كان يعلن رفضه للقتال ،و يدعو إلى الصلح ،و عندما سمع بعض شيعة علي يقولون : إن الله أهلك أعداءه ، و أظهر أمير المؤمنين....
قال : إني و الله ما أعده ظفرا أن تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى ،... فقالوا له : ماذا تريد ؟ قال : الصلح .
و كان يقول –أيضا- : إن الفتح أن يحقن الله دماءهم و يصلح بينهم . ..و عندما سمع به علي بن أبي طالب ،و كلّمه في الأمر ،و أصرّ على موقفه عزله عن ولاية الكوفة .(*20)
و أما بالنسبة للصحابة الذين قاتلوا مع أهل مكة في موقعة الجمل ، فأشهرهم : طلحة و الزبير –رضي الله عنهما – فقد بايعا عليا تحت تهديد قتلة عثمان ، وطلبا منه تعيينهما واليين ليأتيانه بالجنود من الكوفة و البصرة ليتقوى بهم في الاقتصاص من المجرمين ، فلم يستجب لهما ،...
عندها استأذناه في الخروج إلى مكة فأذن لهما ، فالتحقا بها و شرع في تنفيذ خطتهما- التي اقتراحاها سابقا على علي – فاستنفرا الناس للمطالبة بدم عثمان . و هما بعملهما هذا لم ينكرا حق علي في الخلافة (*21) ...
و إنما كانت لهما وجهة نظر سعيا في تحقيقها للاقتصاص من قتلة عثمان .
و عملهما هذا كان في مقدور الإمام علي الاستفادة منه ، عن طريق الاتفاق معهما للأخذ بدم الخليفة الشهيد ، و هو الشيء الذي تم بالفعل عندما تصالح معهما على ذلك في موقعة الجمل، لكن قتلة عثمان افسدوا عليهم صلحهم ..
( ابن كثير : المصدر السابق ج7 ص: 238 و ما بعدها )
لكن الشيء المؤسف و الغريب جدا أن هذا العمل التعاوني بين الطائفتين المؤمنتين ، لم نسمع أنه حدث مرة أخرى لقطع دابر قتلة عثمان ، و هو امر ليس بالأمر الصعب ، فهو واجب ،و أولى و أسهل من القتال الذي جرى في موقعة صفّين
و أما الصحابة الذين قاتلوا مع أهل الشام ، فمنهم : معاوية و عمرو بن العاص ،و فضالة بن عبيد الأنصاري ،و مسلمة بن مخلد ،و النعمان بن بشير ،و معاوية بن أبي خديج الكندي ،و أبو غادية الجهني ،و حبيب بن مسلمة ،و أبو الأعور السلمي ،و بشر بن أرطأة العامري ،و عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنهم – .. (*22)
و قد روي أن عدد الصحابة الذين قاتلوا مع معاوية بلغ 300 صحابي ، لكن هذه الرواية إسنادها ليّن لا يحتج بها في علم مصطلح الحديث .(*23)
و ذكر الشيخ الإمام المؤرخ شمس الدين الذهبي أنه قد قاتل مع معاوية جماعة يسيرة من الصحابة ، و قاتل معه عدد كبير من التابعين و الفضلاء ..
(سيّر أعلام النبلاءج3 ص:128 ) .
و أشير هنا إلى أن الروايات قد اختلفت في تقدير عدد الصحابة -الذين شاركوا في الفتنة - اختلافا كبيرا ، فقيل أنه قاتل مع علي 24 صحابيا ،و قيل : 150 صحابيا ، و قيل : 800 صحابي (*24)
،و قدّرهم المؤرخ اليعقوبي ب: 1100 صحابي ،و حددهم المؤرخ المسعودي ب: 2800 صحابي .(*25)
و روي أن عدد الصحابة الذين قاتلوا مع أهل الشام بلغ : 300 صحابي...
( الذهبي: سيّر أعلام ج3 ص: 157 ) .
و في روايات أخرى أن مجموع الصحابة الذين شاركوا يوم الجمل بلغ أربعة من الأصحاب فقط ، و قيل واحد فقط ممن شهد بدرا .
و قيل أن مجموعهم لم يصل إلى 100 ، بل لم يبلغ ثلاثين(30) صحابيا ، و قدرهم الشيخ تقي الدين بن تيمية بنحو : 100 صحابي في المجموع .......(*26)
فهذه الأرقام المتضاربة تعكس –في عمومها- خلفيات و نوايا رواتها ، فالمبالغون في تضخيم عدد الصحابة في صف علي ، يقصدون بذلك التأكيد على أن كثيرا من الصحابة قاتلوا معه ،و أن الذين قاتلوه هم - معظمهم- من المنحرفين .
و المقلون في تقدير العدد يهدفون إلى التأكيد على أن الغالبية العظمي من الصحابة اعتزلوا الفتنة ، و أن القتال جرى بين العوام و الأشرار و الأوباش و الرعاع .
و الحقيقة أنه لا يمكن قبول الروايات التي حددتهم ب: 1،و 4 ،و 10 ، لأنه من الثابت تاريخيا أن أعلاما من الصحابة شاركوا في الفتنة ، يزيد عددهم عن عشرة ، و قد أحصيت منهم طائفة بلغ عددها 35 صحابيا .(*27)
و في مقابل ذلك فإن ما ذكره المؤرخان اليعقوبي (ت292ه) ،و المسعودي (ت346ه) ، هو عدد مبالغ فيه جدا ، لأن روايات أخرى تعارضه ،و أن المصنفات الأخرى التي أرّخت للفتنة لم تذكر هذا العدد الكبير من الصحابة المشاركين في القتال، من حيث عددهم الإجمالي ،و لا من حيث أسمائهم ...
و أنا شخصيا استبعد جدا ما رواه هذان المؤرخان ، لأن تضخيم العدد من ورائه نزعتهما الشيعية المغالية ، و الشيعة عند المحقيقين لا وزن لرواياتهم ،و حذّروا من الأخذ عنهم ، لأنهم يتعمدون الكذب...
( ابن تيمية : المصدر السابق ج 1ص: 13) .
و قد كانت شيعة الكوفة حريصة جدا على تلطيخ كل إنسان بمشاركته في الفتنة ..
( الخلال : المصدر السابق ج2 ص:467).
كما لا يخفى علينا أن اليعقوبي و المسعودي لم يذكرا للخبر- الذي زعماه- إسنادا لكي ننقد رجاله .
و حتى إذا فرضنا-جدلا- صحة ما روياه فإن عدد الصحابة الذين شاركوا في الفتنة يبقى قليلا ، بالمقارنة إلى عددهم الإجمالي المقدر ب: 10 ألآف صحابي عند بداية الفتنة (*28)
فأين 2800 صحابي من مجموع 10 آلاف . و يبدو لي أن العدد القريب من الصحة هو ما ذهب إليه الشيخ ابن تيمية من أنه قريب من مائة .
و يتبين مما ذكرناه عن مواقف الصحابة من الفتنة أن :
● منهم من بايع عليا و قاتل معه ،رضي الله عنه
● و منهم من بايعه و لم يقاتل معه ،
● و منهم من بايعه و قاتله-كطلحة و الزبير-
● و منهم من لم يبايعه و قاتله –أهل الشام- .
● وأن الغالبية الساحقة من الصحابة قد اعتزلت الفتنة و لم تشارك فيها .
و قد ذهب الباحث أبو الأعلى المودودي إلى القول بأن المعتزلين للفتنة كانت نواياهم حسنة أملا في درئها ، غير أن موقفهم منها أدى إلى تفاقمها ، وبث الشك في قلوب الناس ،و كان على الأمة أن تتعاون مع علي بن أبي طالب ، لاستعادة الأمن و السلام للخلافة . (*29)
و أقول- ردا عليه - :
● إن الأمر على عكس ما ذهب إليه المودودي ، لأن المعتزلين للفتنة احتجوا بأحاديث صحيحة عن الرسول-صلى الله عليه و سلم- مدحهم فيها و صوّب رأيهم . ...(*30)
لكن الذين خاضوها لم يحتجوا باحاديث للنبي –عليه الصلاة و السلام – ، و إنما اعتمدوا على آرائهم و اجتهاداتهم . (*31)
● كما أن مشاركة المعتزلين للفتنة في الحرب مع علي ما كانت لتوقف الحرب بل ستزداد ضراوة باشتراكهم فيها لأن كل أطراف الحرب كانت مصرة على مواقفها .
إن عدم خوضهم فيها أضعف ضراوتها ،و جنّب كثيرا من الناس الاكتواء بها ..
فهل يصح بعد هذا أن يقال أن اعتزالهم للفتنة زاد في تفاقمها ؟
مع العلم أن المعتزلين للحرب لم ينكروا حق علي في الخلافة و أهليته لها ،و إنما خالفوه عندما عزم على القتال ،
و هم لم يكونوا على استعداد للخوض في دماء المسلمين و ترك قناعاتهم ،و ما سمعوه من الرسول-صلى الله عليه و سلم- ،و يتبعون عليا في رأي رآه ، خالفه فيه كثير من كبار الصحابة .
و هو في إصراره على القتال لم يحقق ما كان يرجوه ، فلا هو اقتص من قتلة عثمان ،و لا انتصر على أهل الشام ،و لا تحكّم في جيشه .
و لماذا لا يقال -أيضا- إنه كان على الإمام علي رضي الله عنه أن يضع يده مع المعتزلين للحرب ،و يتعاون مع المطالبين بدم عثمان ، ليقتص من المجرمين ، و بذلك تسقط حجة المنادين بالاقتصاص ،و يعود الأمن و السلام للخلافة الإسلامية ؟ .
-------------------------------------------------------------------
(*1)انظر مثلا : ابن كثير : البداية و النهاية ، ط3 ، مكتبة المعارف 1981 ،ج7 ص: 245 ، 275 . و المسعودي : مروج الذهب و معادن الجوهر ، الجزائر ، موفم للنشر 1989 ج 2ص: 419-420
(*2) انظر : ابن كثير : نفس المصدر ج 7ص: 228، 229 ، 230 .و ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، بيروت المكتبة العلمية ، د ت ج3 ص: 1 ، 2 .
(*3) الطبري : تاريخ الأمم و الملوك ، بيروت دار الكتب العلمية ، 1997 نج2 ص: 703 ،و ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 228، 229 .
(*4) المودودي: الخلافة و الملك ، الجزائر دار الشهاب د ت 1988 ص: 49 .
(*5) انظر: ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 238 و ما بعدها .
(*6)ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 223، 236 ، 274 .
(*7)انظر : ابن تيمية : منهاج السنة ج 1ص: 145 ،و ج2ص: 219 .و ابن عبد البر: الاستيعاب ج1 ص: 171. و الذهبي : سيّر أعلام النبلاء ،ط 3 بيروت مؤسسة الرسالة ، 1985 ج 1ص: 93، 103، ج2ص: 375 ج3ص: 23 ، 128 ، 445 . و ابن كثير : البداية ج8 ص: 377 ، 449 .و محمد آمحزون : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة ، ط3 الرياض دار طيبة ، 1999 ن ج2 ص: 169 ، 170 .
(*8)ابن تيمية : المصدر السابق ج 1ص: 144-145 ،و ج3 ص: 220-221 . و بدر الدين الحنبلي : مختصر فتاوى ابن تيمية ، بيروت دار الكتب العلمية ، د ت ، ص: 489 .
(*9) الذهبي: المصدر السابق ، ط مصر ن دار المعارف د ت ج 2ص: 364 . و ابن تيمية : المصدر السابق ج 2ص: 219 .
(*10) ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 234 .
يروى أنه ندم في آخر حياته انه لم يقاتل الفئة الباغية ، لكن الروايات اختلفت عنه في تحديد من هي الفئة الباغية التي قصدها ، فقيل التي حاربت عليا ، و قيل هي طائفة ابن الزبير ،و قيل هي : الحجاج بن يوسف و طائفته . الذهبي : -
(*11)المصدر السابق ج3ص: 229-،232.و ابن عبد البر: المصدر السابق ج1 ص: 171-172 .
(*12)الذهبي : نفس المصدر ج 1ص: 120.
(*13) نفس المصدر ج 2 ص: 268 .و ابن سعد : الطبقات الكبرى ج3 ص: 339 .و ابن كثير : المصدر السابق ط دار المعرفة بيروت ج8 ص: 416 .
(*14)الذهبي : المصدر السابق ج 2 ص: 384 .و ابن كثير : المصدر السابق ج 8 ص: 447 .
(*15)الذهبي: الخلفاء الراشدون ، حققه حسام الدين القدسي ط 1 بيروت ، دار الجيل 1992 ص: 329، 389 .و ابن تيمية : منهاج السنة ج3 ص: 156، 220 ،221،و ج4 ص: 121 .
(*16) الذهبي:الخلفاء: 388، 389، 390 .و ابن تيمية : نفسه 3/:156، 220 221 ،و ج4 ص: 121 .
(*17)ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 229 .
(*18) الذهبي : سير أعلام النبلاء ج 1 ص: 120 .
(*19)الذهبي: المصدر السابق ج 3 ص: 261ن 264 . و ابن كثير:البداية ج 7 ص: 235-236.و الطبري: المصدر السابق ج3ص:11-12.
(*20) الذهبي: الخلفاء الراشدون ص : 403 . و سيّر أعلام النبلاء ط مصر ج2 ص: 353 .
(*21) ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 228، 229 ، 230 و ما بعدها .
(*22)الذهبي: الخلفاء الراشدون ص: 331 .و سيّر أعلام النبلاء ط مصر ج 2 ص: 334 وج 3ص: 91
(*23)الذهبي:السير ج 3 ص: 157 .و محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، الجزائر دار رحاب ص:153 .
(24)الذهبي: الخلفاء الراشدون ص: 329، 330 .و ابن كثير: البداية ج7 ص: 255 . وخليفة خياط : تاريخ خليفة خياط ج1ص:180.
(*25)تاريخ اليعقوبي ، بيروت دار الفكر 1956 ج2 ص: 134 .و مروج الذهب ج 2 ص: 421 .
(*26)الذهبي : سيّر أعلام النبلاء ج 3 ص: 157 . و الخلفاء الراشدون ص: 186 .و ابن تيمية : منهاج السنة ج 3 ص: 186 . و ابن كثير : المصدر السابق ج 7ص: 253 .و أبو بكر الخلال : السنة ج2 ص:466 .
(*27) منهم 21 صحابيا مع علي ( الذهبي:الخلفاءص:329 ) و الباقي مع الطرف الآخر و قد ذكرناهم سابقا .
(*28) الخلال : المصدر السابق ج2ص: 466.و ابن تيمية : منهاج السنة ج3ص: : 186 .و ابو بكر بن العربي : العواصم من القواصم ،حققه محب الدين الخطيب ط1 د ن 1986 نص: 187 .
(*29)الخلافة و الملك ص: 76-77 .
(*30) سيأتي ذكرها قريبا ، و انظر : البخاري : صحيح البخاري ، الجزائر ، دار الشهاب ج8 ص: 92
(*31) الذهبي: الخلفاء الراشدون ص: 389 . و ابن تيمية : منهاج السنة ج3ص: 156، 220-221
☆ قضية التحكيم في موقعة صفّين-بين الحقائق و الأباطيل-(سنة37ه) الدكتور خالد كبير علال حاصل على دكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة الجزائر- الطبعة الأولى دار البلاغ -الجزائر- -1423/2002م- ص15-4
-------------------------------------------------------------------
الحكم الشرعي في القتال في موقعتي الجمل و صفّين ؛؛ومسالة التحكيم في موقعة صفّين (37ه).
تابعوا ----
إرسال تعليق