تاريخ الدولة الأموية (18)
مازلنا مع التعليق على أحداث صفين وقضية التحكيم
---------------------------------------------------------------------
استغل ملك الروم الخلاف الذي وقع بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما وطمع في ضم بعض الأراضي التي تحت هيمنة معاوية إليه،...
قال ابن كثير : ..
{ وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان أخشاه وأذله، وقهر جندهم ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك ولأضيقنَّ عليك الأرض بما رحبت، ...
فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة }.
وهذا الأثر يدل على أن الخلاف الذي بينه وبين علي رضي الله عنه لن يبقى لحظة واحدة فيما لو تعرض أمن الدولة الإسلامية في الشام للخطر، ولولا أن الروم يعلمون أن هذه الخلافات قابلة للنسيان المطلق ما أخذوا تحذير معاوية مأخذ الجد وكفوا أيديهم
--------------------------------------------------------------------
قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين
قال نصر بن مزاحم الكوفي:
{ وحمل أهل العراق وتلقَّاهم أهل الشام فاجتلدوا وحمل عمرو بن العاص.... فاعترضه علي وهو يقول :
قد علمت ذات القرون الميل
والخضر والأنامل الطفول
إلى أن يقول : ثم طعنه فصرعه واتقاه عمرو برجله، فبدت عورته، فصرف علي وجهه عنه وارتُثَّ...
فقال القوم : أفلتَ الرجل يا أمير المؤمنين.
قال : وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا.
قال : فإنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي } ،
وذكر القصة ـ أيضاً ـ ابن الكلبي كما ذكر ذلك السهيلي في الروض الأنف : وقول علي : إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرَحِمَ إلى أن قال:.. ويروى مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع علي رضي الله عنه ـ يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر الشهمي رواه ابن الكلبي وغيره:
أفي كل يوم فارس غير منته
وعورته وسـط العجاجة بادية
يكف لهـا عنه علي سنانه
ويضحك منه في الخلاء معاوية
والرد على هذا الافتراء والإفك المبين كالآتي :
فراوي الرواية الأولى، نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جلد لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، ...
● قال عنه الذهبي في الميزان : نصر بن مزاحم الكوفي: رافضي جَلد، تركوه قال عنه العقيلي: شيعي ؛ في حديثه اضطراب وخطأ كثير،
● وقال أبو خيثمة : كان كذاباً ،
● وقال عنه ابن حجر : قال العجلي: كان رافضياً غالياً... ليس بثقة ولا مأمون .
وأما الكلبي، هشام بن محمد بن السائب الكلبي، اتفقوا على غلوه في التشيع ...
●قال الإمام أحمد : من يحدث عنه ؟ ما ظننت أن أحداً يحدث عنه .
● وقال الدارقطني : متروك ،
وعن طريق هذين الرافضين سارت هذه القصة في الآفاق وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة، وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة ،...
وتعد هذه القصة أنموذجاً لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله، فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ....
وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغض من جناب الصحابة الأبرار ـ رضي الله عنهم ـ في غفلة من أهل السنة الذين وصلوا متأخرين إلى ساحة التحقيق في روايات التاريخ الإسلامي بعد أن طارت تلكم الأشعار والحكايات بين القصَّاص وأصبح كثير منها من المسَلَّمات، حتى عند مؤرخي أهل السنة للأسف .
--------------------------------------------------------------------
مرور أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه بالمقابر بعد رجوعه من صفين
لما انصرف علي أمير المؤمنين رضي الله عنه من صفين مرّ بمقابر، فقال :
{ السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبعٌ، وبكم عمّا قليل لاحقون،...
اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، الحمد لله الذي جعل الأرض كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، الحمد لله الذي خلقكم وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم، وطوبى لمن ذكر المعاد وأعدّ للحساب، وقنع بالكفاف }.
-------------------------------------------------------------------
إصرار قتلة عثمان رضي الله عنه على أن تستمر المعركة
إن قتلة عثمان كانوا حريصين على أن تستمر المعركة بين الطرفين، حتى يتفانى الناس، وتضعف قوة الطرفين، فيكونوا بمنأى عن القصاص والعقاب، ....
ولذلك فإنهم فزعوا وهم يرون أهل الشام يرفعون المصاحف، وعلي رضي الله عنه يجيبهم إلى طلبهم فيأمر بوقف القتال وحقن الدماء فسعوا إلى محاولة ثني أمير المؤمنين عن عزمه ....
لكن القتال توقف، فأسقط في أيديهم، فلم يجدوا بداً من الخروج على علي رضي الله عنه فاخترعوا مقولة (الحكم لله) وتحصنوا بعيداً عن الطرفين،
والغريب أن المؤرخين لم يركزوا على ما فعله هؤلاء في هذه المرحلة، كما ركزوا على موقفهم في معركة الجمل، رغم أنهم كانوا موجودين في جيش علي، ...
ولم يدققوا في سر إخفاق تلك المفاوضات التي دامت أشهر عديدة، وعن الدور الذي يمكن أن يكون قتلة عثمان قد قاموا به في معركة صفين لإفشال كل محاولة صلح بين الطرفين،
لأن إصطلاح علي مع معاوية هو أيضاً إصطلاح عل دمائهم، فلا يعقل أن يجتهدوا في الفتنة في وقعة الجمل، ويتركوا ذلك في صفين .
--------------------------------------------------------------------
نهي أمير المؤمنين علي عن شتم معاوية ولعن أهل الشام
روي أن علياً ـ رضي الله عنه ـ لمّا بلغه أن اثنين من أصحابه يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام أرسل إليهما أن كفّا عمّا يبلغني عنكما، ...
فأتيا فقالا : يا أمير المؤمنين : ألسنا على الحق وهم على الباطل؟
قال : بلى وربّ الكعبة المسدّنة، قالا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم ؟ قال : كرهت لكم أن تكونوا لعّانين، ولكن قولوا : اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأبعدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي من لجج به ،
وأما ما قيل من أن علياً كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن عليّاَ وابن عباس والحسن والحسين، فهو غير صحيح،...
لأنَّ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا أكثر حرصاً من غيرهم على التقيد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم ولعنه ،
- فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :
من لعن مؤمناً فهو كقتله ،
-وقوله صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بطعان ولا بلعّان ، -وقوله صلى الله عليه وسلم : لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ،
كما أن الرواية التي جاء فيها لعن أمير المؤمنين في قنوته لمعاوية وأصحابه ولعن معاوية لأمير المؤمنين وابن عباس والحسن والحسين لا تثبت من ناحية السند .....
حيث فيها أبي مخنف لوط بن يحي الرافضي المحترق الذي لا يوثق في رواياته.
كما أن في أصح كتب الشيعة عندهم النهي عن سب الصحابة، فقد أنكر علي من يسب معاوية ومن معه فقال :
{ إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم اللهم أحقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم ، }
فهذا السب والتكفير لم يكن من هدي علي باعتراف أصح كتاب في نظر الشيعة .
-------------------------------------------------------------------
قصة التحكيم
تم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد إنتهاء موقعة صفين، وهو أن يحكّم كل واحد منهما رجلاً من جهته ثم يتّفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين،
فوكّل معاوية: عمرو بن العاص ؛ ووكل علي : أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعاً ،
وكتبت بين الفريقين وثيقة في ذلك، وكان مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل في شهر رمضان سنة 37هـ،
وقد رأى قسم من جيش علي رضي الله عنه أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر فعليه أن يتوب إلى الله تعالى وخرجوا عليه فسموا الخوارج ،
فأرسل علي رضي الله عنه إليهم ابن عباس رضي الله عنهما فناظرهم وجادلهم ثم ناظرهم علي رضي الله عنه بنفسه فرجع طائفة منهم وأبت طائفة أخرى، فجرت بينهم وبين علي رضي الله عنه حروب أضعفت من جيشه وأنهكت أصحابه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة.
تعتبر قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة وقد تاه فيها كثير من الكتاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، ....
وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام وخصوصا ً:
● أبو موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعا في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضيّة التحكيم،
● ووصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب مكر وخداع، ...
فكل هذه الصفات الذميمة حاول المغرضون والحاقدون على الإسلام إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين الذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدّى إلى قتل الكثير من المسلمين،
وقد تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء والباحثين مع الروايات التي وضعها خصوم الصحابة الكرام على أنها حقائق تاريخية، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها،
وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في إهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها، وليعلم أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم حيث أن أصله حق لا شك فيه .
-------------------------------------------------------------------
نص وثيقة التحكيم
بسم الله الرحمن الرحيم
1 ـ هذا ما تقاضى عليه عليُّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما، فيما تراضيا فيه من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2 ـ قضية علي على أهل العراق شاهدهم وغائبهم، قضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
3 ـ إنّا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته، نُحي ما أحْيى ونُميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا.
4 ـ وإن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظراً وحاكماً، ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظراً وحاكماً.
5 ـ على أن علياً ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذِمّته وذِمّة رسوله، أن يتخذا القرآن إماماً ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً وما لم يجدا في الكتاب ردّاه إلى سنة رسوا الله الجامعة، لا يتعمّدان لها خلافاً، ولا يبقيان فيها بشبهة.
6 ـ وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه وليس لهما أن ينقُصا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.
7 ـ وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما، لم يعدو الحق، رضي به راض أو سخط ساخط، وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله.
8 ـ فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً من أهل المعدلة والصلاح، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق.
9 ـ وإن مات أحد الأميرين قبل إنقضاء الأجل المحدود في هذه القضية، فلشيعته أن يُوِلوّا مكانه رجلاً يرضون عدله.
وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح.
10 ـ وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح .
11 ـ وقد وجبت القضية على ما سمّيناه في هذا الكتاب، من موقع الشرط على الأميرين والحَكمين والفريقين والله أقرب شهيد وكفى به شهيداً، فإن خالفا وتعدّيا، فالأمّة بريئة من حُكمهما، ولا عهد لهما ولا ذِمّة.
12 ـ والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل، والسلاح موضوعه، والسبل آمنة، والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر.
13 ـ وللحَكمين أن ينزلا منزلاً متوسطاً عدلاً بين أهل العراق والشام.
14 ـ ولا يحضرهما فيه إلا من أحبَّا عن تراضٍ بينهما .
15 ـ والأجل إلى انقضاء شهر رمضان، فإن رأى الحَكمان تعجيل الحكومة عجّلاها، وإن رأى تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.
16 ـ فإن هما لم يحكُما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل، فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب.
17 ـ وعلى الأمّة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر، وهم جميعاً يد واحدة على من أراد في هذا الأمر إلحاداً أو ظلماً أو خلافاً،
☆ وشهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين، إبنا علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والأشعث بن قيس الكندي، والأشتر بن الحارث، وسعيد بن القيس الهمداني، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب، وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري، وعبد الله بن خباب بن الأرت، وسهل بن حنيف، وأبو بشر بن عمر الأنصاري، وعوف بن الحارث بن عبد المطلب، ويزيد بن عبد الله الأسلمي، وعقبة بن عامر الجهني، ورافع بن خديج الأنصاري، وعمر بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وحجر بن عدي الكندي، ويزيد بن حجية النكري، ومالك بن كعب الهمداني، وربيعة بن شرحبيل، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجية، ومن أهل الشام،حبيب بن مسلمة الفهري، وأبو الأعور السلمي، وبشر بن أرطأة القرشي، ومعاوية بن خديج الكندي، والمخارق بن الحارث الذبيدي، ومسلم بن عمرو السكسي، وعبد الله بن خالد بن الوليد، وحمزة بن مالك، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، ويزيد بن أبجر العبسي، ومسروق بن حبلة العكي، وبسر بن يزيد الحميري، وعبد الله بن عامر القرشي، وعتبة بن أبي سفيان، ومحمد بن أبي سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، وعمّار بن الأحوص الكلبي، ومسعدة بن عمرو العتبي، والصباح بن جلهمة الحميري، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع، وتمامة بن حوشب، وعلقمة بن حكم.
☆ وكتب يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين .
---------------------------------------------------------------------
قصة التحكيم المشهورة وبطلانها
لقد كثر الكلام حول قصة التحكيم، وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبان للأحكام على مضامينها
وقلما تجد أحداً وقف عندها فاحصاً محققاً،
وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً وإن كان غير مفصل وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص، وإذ إن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة من عدة وجوه :
● 1 ـ أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند رجالة ثقات عن الزهري مرسلاً قال : قال الزهري:
{ فأصبح أهل الشام قد نشروا مصافحهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراق، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص فتعرق أهل صفين حين حكم الحكمان، ....
فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن ويخفضا من خفض القرآن، وأن يختار لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح،....
فلما انصرف عليّ خالفت الحرورية وخرجت ـ وكان ذلك أول ما ظهرت ـ فآذنوه بالحرب، وردوا عليه: أن حكم بن آدم في حكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه،....
وقالوا، فما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشّام،
وأبي علي وأهل العراق أن يوافوا،
فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش : أترون أحداً من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يفترقان؟
قالوا : لا نرى أحداً يعلم ذلك، قال : فوالله إني لا أظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأرجعهما،
فدخل عمرو بن العاص وبدأ به فقال : يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة، فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمّة،
قال : أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار،
فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غيره ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو..
وقال أبو موسى : أراكم أثبت الناس رأياً، فيكم بقية المسلمين، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك،
فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد،..
فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم،
قال أبو موسى: وما ذاك؟
قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشّام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟
قال: بلى،
قال عمرو: اكتبها فكتبها أبو موسى،
قال عمرو : يا أبا موسى، أأنت على أن تسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمّة؟ فسمه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك عليّ أن أتابعك وإلا فلي عليك أن تتابعني،
قال أبو موس أسمي لك معاوية بن أبي سفيان..
فلم يبرحا مجلسهما حتى استبا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: إني وجدت مثل عمرو كمثل الذي قال الله عز وجل (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) .
فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال :
أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال الله عز وجل (مَثََلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا).
وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار .
------------------------
ملاحظات على هذه الرواية
● الزهري لم يدرك الحادثة فهي مرسلة، ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة ، كما قرّر العلماء ،
● وهناك طريق أخرى أخرجها ابن عساكر بسنده إلى الزهري وهي مرسلة وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد : كان يضع الحديث .
● وفي سنده أيضاً الواقدي، وهو متروك ،
وهذا نصها :
{... رفع أهل الشّام المصاحف وقالوا : ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتاباً على أن يوافوا رأس الحول أذرح، وحكموا حكمين ينظرون في أمور الناس فيرضوا بحكمها،
فحكّم علي : أبا موسى الأشعري، وحكم معاوية عمرو بن العاص، وتفرق الناس فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كان معه ، وأنكروا تحكيم وقالوا: لا حكم إلا لله
ورجع معاوية إلى الشام بالإلفة واجتماع الكلمة عليه ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين، واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية،
فقدم أبا موسى فتكلم وخلع عليا ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع علياً وأقر معاوية،
فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما وبايع أهل الشام ومعاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين } ،
● وأما طرق أبي مخنف فهي معلولة به، وبأبي جناب الكلبي
فالأول : وهو أبو مخنف لوط بن يحيى، ضعيف ليس بثقة ، وأخباري تالف غالي من الرفض..
وأما الثاني قال فيه أبن سعد : كان ضعيفاً ، وقال البخاري وأبو حاتم : كان يحيى القطان يضعفه وقال عثمان الدارمي: ضعيف ، وقال النسائي: ضعيف .
----------------------------
هذه طرق قصة التحكيم المشهور، والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة،..
أفمثل هذا تقوم حجة، ؟! أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعهد الخلفاء الراشدين، عصر القدوة والأسوة، ؟!
ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفاً فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها .
ورغم أهمية هذه القضية في جانب الاعتقاد والتشريع، فإنها لم تنقل لنا بسند صحيح، ومن المحال أن (*يسكت) العلماء على إهمالها مع أهميتها وشدة الحاجة إليها .
ثم إنه قد وردت رواية تناقض تلك الروايات تماماً، وذلك فيما أخرجه البخاري في تاريخه مختصراً بسند رجاله ثقات، وأخرجه أبن عساكر مطولاً، عن الحصين بن المنذر :
{.. أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له: إنه بلغني عن عمرو وأبي موسى فيه كيف صنعتما فيه؟
قال : قد قال الناس وقالوا ولا والله ما كان ما قالوا ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟
قال : أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ..
قال عمرو : فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟
قال: أن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغني عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما . }
وقد روى أبو موسى عن تورّع عمرو ومحاسبته لنفسه، وتذكُّره سيرة أبي بكر وعمر، وخوفه من الإحداث بعدهما،
قال أبو موسى:
قال لي عمرو بن العاص: والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحلُّ لهما، غُبِنا وأخطأ أو نقص رأيهما، ووالله ما كان مغبونين ولا مخطئين ولا ناقصي الرأي. ووالله ما جاءنا الوهم والضعف إلا من قِبلنا .ٍ
ثم إن معاوية كان يقر بفضل علي عليه وأنه أحق بالخلافة منه فلم ينازعه الخلافة ولا طلبها لنفسه في حياة علي
فقد أخرج يحي بن سليمان الجعفي بسند جيد ، عن أبي مسلم الخولاني أنه :
قال لمعاوية : أنت تنازع علياً في الخلافة أو أنت مثله؟
قال : لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا أبن عمه ووليه أطلب بدمه؟ ....
فأتوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان وأسلم له،
فأتوا عليا فكلموه فلم يدفعهم إليه }
فهذا هو أصل النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فالتحكيم من أجل حل هذه القضية المتنازع عليها لا لاختبار خليفة أو عزله ، ...
ويقول ابن حزم في هذا الصدد :
{ بأن علياً قاتل معاوية لإمتناعه من تنفيذ أوامره في جميع أرض الشام، وهو الإمام الواجب طاعته، ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أَدَّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان ....
والكلام فيه من أولاد عثمان وأولاد الحكم بن أبي العاص لسنّه وقوته على الطلب بذلك وأصاب في هذا ؛ وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط ، }
وفهم الخلاف على هذه الصورة ـ وهي صورته الحقيقية ـ يبين إلى أيِّ مدى تخطئ الروايات السابقة عن التحكيم في تصوير قرار الحكمين،
إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين علي ومعاوية، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء،
فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قراراً في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك أنهما لم يفقها موضوع النزاع، ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو مستبعد جدّا
-------------------------------------------------------------------
نرفق للإشارات أرقامها هنا وفي المتن لاحقا إن شاء الله
البداية والنهاية (8/122) .
الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام صـ 211 .
الطفول : جمع طفل ، بالفتح ، وهو الرخص الناعم .
وقعة صفين صـ 406 ـ 408) ، قصص لا تثبت ، سليمان الخراشي (6/16) .
الروض الأنف (5/462) ، قصص لا تثبت (6/19) .
ميزان الاعتدال (4/253 ـ 254) .
لسان الميزان (6/157) .
المجروحين لابن حبان (3/91) ، تذكرة الحفاظ (1/343) معجم الأدباء (19/287) ، قصص لا تثبت صـ(1/18) .
قصص لا تثبت (1/20) .
المصدر نفسه (1/10) .
البيان والتبيان للجاحظ (3/148) ، فرائد الكلام للخلفاء الكرام صـ 327 .
أحداث وأحاديث فتنة الهرج صـ 147 .
الأخبار الطوال صـ 165 نقلاً عن تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/232) .
تحقيق مواقف الصحابة (2/232).
البخاري ، ك الأدب (7/84) .
السلسلة الصحيحة للألباني رقم 320 ، صحيح سنن الترمذي (2/189) رقم 1110 .
مسلم (4/2006) رقم 2598 .
نهج البلاغة صـ 323 .
أصول مذهب الشيعة (2/934) .
مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري صـ 378 ، تنزيه لخال أمير المؤمنين معاوية صـ 38 .
إنظر : الوثائق السياسية صـ 538 ، 537 ، الأخبار الطوال للدينوري صـ 196 ـ 199 ، أنساب الأشراف (1/382) ، تاريخ الطبري (5/665 ، 666) ، البداية والنهاية (7/276 ، 277) .
مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري صـ 4042 .
المصنف (5/463) ، مرويات تاريخ الطبري صـ 406 .
المراسيل لأبي حاتم صـ 3 ، الجرح والتعديل (1/246) .
تهذيب التهذيب (12/27) ، مرويات تاريخ الطبري صـ 406 .
روايات تاريخ الطبري صـ 406 .
تاريخ دمشق (16/53) .
تحقيق مواقف الصحابة (2/223) .
مرويات أبي مخنف صـ 407 .
التاريخ الكبير (4/2/267) ، الجرح والتعديل (9/138) .
التاريخ للدارمي صـ 238، تحقيق مواقف الصحابة 0(2/223).
الضعفاء والمتركون صـ 253 .
مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري صـ 408 .
المصدر نفسه صـ 408 .
التاريخ الكبير (5/398) .
العواصم من القواصم صـ 178 ـ 180 .
فتح الباري (13/86)
سير أعلام النبلاء(3/140)
مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري صـ409
الفصل في الملل والنحل (4/160)
تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/225)
☆ الدولة الأموية للصلابي ص106-99
-------------------------------------------------------------------
إرسال تعليق