سيرة الصديق أبى بكر رضي الله عنه 🚩 (2-6)
------------------------------------------------------------------
إن حادثة هجرة الصديق مع رسول الله فيها دروس وعبر وفوائد منها :
------------------------------------------------------------------
أولا ً: قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، الآية40).
ففي هذه الآية الكريمة دلالة على أفضلية الصديق من سبعة أوجه ففي الآية الكريمة من فضائل أبي بكر رضي الله عنه:
1- أن الكفار أخرجوه :
الكفار أخرجوا الرسول (ثاني أثنين) فلزم أن يكونوا أخرجوهما، وهذا هو الواقع.
2- أنه صاحبه الوحيد :
الذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبوبكر، وكان ثاني أثنين الله ثالثهما. قوله {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} ففي المواضع التي لايكون مع النبي ﷺ من أكابر الصحابة إلا و احد يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إلا أبوبكر، ومثل خروجه الى قبائل العرب يدعوهم الى الاسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر،
وهذا اختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي ﷺ.
3- أنه صاحبه في الغار :
الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس، عن أبي بكر الصديق ، قال: نظرت الى أقدام المشركين على رؤسنا ونحن في الغار، فقلت: يارسول الله لو أن أحدهم نظر الى قدميه لأبصرنا. فقال: ياأبابكر ماظنك باثنين الله ثالثهما ....(*22).
وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول فلم يختلف في ذلك اثنان منهم فهو مما دل القرآن على معناه . ...(*23).
4- أنه صاحبه المطلق :
قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} لايختص بمصحابته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصحبة كما لم يشركه فيه غيره -فصار مختصاً بالأكملية من الصحبة، وهذا مما لانزاع فيه بين أهل العلم باحوال النبي ﷺ ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره ....(*24).
5- أنه المشفق عليه :
قوله {لا تَحْزَنْ} يدل على أن صاحبه كان مشفقاً عليه محباً له ناصراً له حيث حزن، وإنما بحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه، وكان حزنه على النبي ﷺ لئلا يقتل ويذهب الاسلام، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي امامه تارة، ووراءه تارة، فسأله النبي ﷺ عن ذلك، فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك .....(*25)،
وفي رواية أحمد في كتاب فضائل الصحابة:
《...فجعل أبوبكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي ﷺ مالك؟ قال: يارسول الله أخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم،..
قال: فلما انتهينا الى الغار قال أبوبكر: يارسول الله كما أنت حتى أيمه...فلما رأى أبوبكر حجراً في الغار فألقمها قدمه، وقال يارسول الله إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي》...(*26).
فلم يكن يرضى بمساواة النبي؛ بل كان لايرضى بأن يقتل رسول الله ﷺ وهو يعيش؛ بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله. وهذا واجب على كل مؤمن، والصديق أقوم المؤمنين بذلك ...(*27).
6 - أنه المشارك له في معية الاختصاص :
قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} صريح في مشاركة الصديق للنبي ﷺ في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق... وهي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم - فيكون النبي ﷺ قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك ياأبابكر، ويعيننا عليهم، نصر إكرام ومحبة ...
كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (سورة غافر، الآية 51).
وهذا غاية المدح لأبي بكر ؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالايمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله ...... (*28).
وقال الدكتور عبدالكريم زيدان عن المعية في هذه الآية الكريمة:
" وهذه المعية الربانية المستفادة من قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أعلى من معيته للمتقين والمحسنين في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} لأن المعية هنا لذات الرسول وذات صاحبه، غير مقيدة بوصف هو عمل لهما، كوصف التقوى والإحسان بل هي خاصة برسوله وصاحبه مكفولة هذه المعية بالتأييد بالآيات وخوارق العادات (*29).
7- أنه صاحبه في حال إنزال السكينة والنصر :
قال تعالى {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا...} (سورة التوبة، الآية 40).
فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد فلأن يكون صاحبه في حضور النصر والتأييد أولى وأحرى، فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها. وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أنما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس لصاحبه فيها أعظم مما لسائر الناس. وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه ...(*30).
--------------------------------------------------------------------
ثانياً : فقه النبي ﷺ والصديق في التخطيط والأخذ بالأسباب
إن من تأمل حادثة الهجرة رأى دقة التخطيط فيها ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها ومن مقدماتها إلى ماجرى بعدها يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله ﷺ كان قائماً....
وأن التخطيط جزء من السنة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ماطولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السُّنة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين .....(*31).
فعندما حان وقت الهجرة لاحظنا الآتي :
☆ أ- وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ماكان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلاً،
● جاء النبي ﷺ إلى بيت أبي بكر في وقت شدة الحر -الوقت الذي لايخرج فيه أحد بل من عادته لم يكن يأتي له لماذا؟ حتى لايراه أحد.
● إخفاء شخصيته ﷺ أثناء مجيئة للصديق وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم ......(*32).
● أمر النبي ﷺ أبا بكر أن يخرج من عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الإتجاه .
● وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر(*33).
● بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، وكان ذلك الخبير مشركاً مادام على خلق ورزانة وفيه دليل على أن الرسول ﷺ كان لايحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها .....(*34)
وقد بين الشيخ عبدالكريم زيدان أن القاعدة والأصل عدم الاستعانة بغير المسلم في الأمور العامة،...
وأن لهذه القاعدة استثناء وهو جواز الاستعانة بغير المسلم بشروط معينة وهي :
- تحقق المصلحة أو رجحانها بهذه الاستعانة،
- وأن لايكون ذلك على حساب الدعوة ومعانيها،
- وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به،
- وأن لاتكون هذه الاستعانة مثار شبهة لأفراد المسلمين،
- وأن تكون هناك حاجة حقيقية لهذه الاستعانة على وجه الاستثناء،
وإذا لم تتحقق لم تجز الاستعانة ..(*35)،
-------------------
وقد كان الصديق رضي الله عنه قد دعا أولاده للإسلام ونجح بفضل الله في هذا الدور الكبير والخطير، وقام بتوظيف أسرته لخدمة الإسلام ونجاح هجرة رسول الله ﷺ ، فوزع بين أولاده المهام الخطيرة في مجال التنفيذ العملي لخطة الهجرة المباركة :
1- دور عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما :
فقد قام بدور صاحب المخابرات الصادق وكشف تحركات العدو، لقد ربى عبدالله على حب دينه، والعمل لنصرته ببصيرة نافذة وفطنة كاملة وذكاء متوقد، يدل على العناية الفائقة التي اتبعها سيدنا أبو بكر في تربيته...
وقد رسم له أبوه دوره في الهجرة فقام به خير قيام، وكان يمتثل في التنقل بين مجالس أهل مكة يستمع أخبارهم، ومايقولونه في نهارهم ثم يأتي الغار إذا أمسى فيحكي للنبي ﷺ ولأبيه الصديق رضي الله مايدور بعقول أهل مكة ومايدبرونه ، وقد أتقن عبدالله هذا الواجب بطريقة رائعة فلم تأخذ واحداً من أهل مكة ريبة فيه، وكان يبيت عند الغار حارساً حتى إذا اقترب النهار عاد إلى مكة فما شعر به أحد ....... (*36).
2- دور عائشة وأسماء رضي الله عنهما :
كان لأسماء وعائشة دور عظيم أظهر فوائد التربية الصحيحة حيث قامتا عند قدوم النبي ﷺ إلى بيت أبي بكر ليلة الهجرة بتجهيز طعام للنبي ﷺ ولأبيهما :
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فجهزناهما -تقصد رسول الله ﷺ وأباها- أحسن الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فلذلك سميت ذات النطاقين .....(*37).
3- دور أسماء في تحمل الأذى وإخفاء أسرار المسلمين:
أظهرت أسماء رضي الله عنها دور المسلمة الفاهمة لدينها، المحافظة على أسرار الدعوة المتحملة لتوابع ذلك من الأذى والتعنت فهذه أسماء تحدثنا بنفسها حيث تقول:
{ لما خرج رسول الله ﷺ وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يابنت أبي بكر؟...
قلت : لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشاً خبيثاً- فلطم خدِّي لطمة طرح منها قرطي ..
قالت: ثم انصرفوا...} .....(*38).
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم؟
4-دور أسماء رضي الله عنها في بث الأمان والطمأنينة في البيت :
خرج أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله ﷺ ومعه ماله كله وهو ماتبقى من رأسماله -وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم- وجاء أبو قحافة ليتفقد بيت ابنه، ويطمئن على أولاده وقد ذهب بصره،
فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت : كلا يا أبتِ، ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، فقال: لابأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. لاوالله ماترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكّن الشيخ بذلك ......(*39).
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنّت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب،
فإن أباها قد ترك لهم حقاً هذه الأحجار التي كوّمتها لتطمئن لها نفس الشيخ إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لاتزلزله الجبال، ولاتحركه العواصف الهوج، ولايتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لاحد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولاتلتفت إلى سفاسفها، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عزّ أن يتكرر،وقلّ أن يوجد نظيره.
وظلت أسماء مع أخواتها في مكة، لاتشكو ضيقاً، ولاتظهر حاجة، حتى بعث النبي ﷺ زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسودة بنت زمعة زوجه وأسامة بن زيد، وأمه بركة المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبدالله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، حتى قدموا المدينة مصطحبين (*40).
5- دور عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه :
من العادة عند كثير من الناس إهمال الخادم، وقلة الاكتراث بأمره، لكن الدعاة الربانيين لايفعلون ذلك، إنهم يبذلون جهدهم لهداية من يلاقوه لذا أدب الصديق عامر بن فهيرة مولاه وعلمه، فأضحى عامر جاهزاً لفداء الإسلام وخدمة الدين.
وقد رسم له سيدنا أبو بكر رضي الله عنه دوراً هاماً في الهجرة، فكان يرعى الغنم مع رعيان مكة لكن لايلفت الأنظار لشيء، حتى إذا أمسى أراح بغنم سيدنا أبي بكر على النبي ﷺ فاحتلبا وذبحا ....
ثم يكمل عامر دور عبدالله بن أبي بكر حين يغدو من عند رسول الله ﷺ وصاحبه عائداً إلى مكة فيتتبع آثار عبدالله ليعض عليها مما يعد ذكاء، وفطنة في الإعداد لنجاح الهجرة ...(*41).
وإنه لدرس عظيم يستفاد من الصديق لكي يهتم المسلمون بالخدم الذين يأتونهم من مشارق الدنيا ومغاربها ويعاملونهم على كونهم بشراً أولاً ثم يعلمونهم الإسلام، فلعل الله يجعل منهم من يحمل هذا الدين كما ينبغي.
إن ماقام به الصديق من تجنيد أسرته لخدمة صاحب الدعوة عليه الصلاة والسلام في هجرته يدل على تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف
ولقد أخذ الرسول ﷺ بالأسباب المعقولة أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته ... ومن ثم باتت عناية الله متوقعة(*42).
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لايعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله ﷺ أعد كل الأسباب واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح وهنا يستجاب الدعاء، ويكلل العمل بالنجاح (*43).
رضي الله عن أبي بكر وأرضاه
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
-------------------------------------------------------------------
إرسال تعليق