تاريخ الدولة الأموية (20)
التحقيق في مسألة قرار الحكمين
------------------------------------------------
اجتمع الحكمان : أبو موسى الأشعري ،و عمرو بن العاص رضي الله عنهما ؛ بدومة الجندل ، و قيل بأذرح( 37ه ) ، للبت في التحكيم الذي نص عليه اتفاق الصلح في موقعة صفين ،
و حضر معهما جماعة من الصحابة المعتزلين للحرب كعبد الله بن عمر، و عبد الله بن الزبير، مع حضور نحو : 800 رجل من أهل الشام و العراق كشهود على التحكيم ...(*1)
فماذا دار بين الحكمين ؟ و علام اتفقا ؟
------------------------------------------------------------------
(1) : الرواية المشهورة عن اجتماع الحكمين :
روى الطبري عن أبي مخنف لوط ين يحي ، أن مما دار بين الحكمين :
● أن عمرو بن العاص اقترح على أبي موسى الأشعري تولية معاوية بن أبي سفيان الخلافة ، أو يتولاها هو شخصيا ،.
● فرفض أبو موسى و قال له : إن هذا الأمر شورى بين المسلمين ،و لأهل الدين و الفضل ، ...
● ثم اقترح عليه تعيين عبد الله بن عمر ، فأبى عمرو بن العاص ،و اقترح هو بدوره ابنه عبد الله ،و وصفه بالفضل و الصلاح ، ..
● فقال أبو موسى : ابنك رجل صدق ، لكنك غمسته في هذه الفتنة .
● و في نهاية الأمر اتفق الحكمان على خلع معاوية و علي ، وأن يجعل الأمر شورى بين المسلمين ، ...
● فنهض أبو موسى ليعلن الاتفاق، فتقدم إليه عبد الله بن عباس و حذّره من أن يخدعه ابن العاص ،و أمره بأن لا يتقدم عليه في الكلام لأنه-أي عمرو- رجل غادر ، إذا تكلمت أنت الأول خالفك بعد ذلك .
● و تقول الرواية ان ابن عباس حذّر أبا موسى لأنه كان مغفلا ،
ثم تقدم أبو موسى و قال أمام الحاضرين : ( إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ،و لا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي و رأي عمرو عليه :
و هو أن نخلع عليا ومعاوية و تستقبل هذه الأمة هذا الأمر ، فيولوا منهم من أحبوا عليهم ،
و إني قد خلعت عليا و معاوية ، فاستقبلوا أمركم و ولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا ، ....
● ثم تنحى و أقبل ابن العاص فقام مقامه ، فحمد الله و أثنى عليه و قال :
إن هذا قد قال ما سمعتم و خلع صاحبه ، و أنا اخلع صاحبه كما خلعه ،و اثبت صاحبي معاوية ، فإنه ولي عثمان بن عفان و الطالب بدمه و أحق الناس بمقامه .
● فقال أبو موسى : مالك لا وفقك الله ، غدرت و فجرت ! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ،أو تتركه يلهث .
● فقال عمرو : إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا ، ثم انصرف مع أهل الشام إلى معاوية ،و سلّموا عليه بالخلافة .
● و قال ابن عباس : قبّح الله رأي أبي موسى ، حذّرته و أمرته بالرأي فما عقل . فكان أبو موسى يقول : حذرني ابن عباس غدرة الفاسق ، لكنني أطمأننت إليه ،و ظننت أنه لن يؤثر شيئا على نصيحة الأمة .(*2)
و في رواية أخرى لابن قتيبة و المسعودي أن الحكمين اتفقا على خلع علي و معاوية ، و تعيين عبد الله بن عمر بن الخطاب خليفة للمسلمين ..
( الإمامة و السياسة ج1ص: 203.و مروج الذهب ج2ص:478،479).
و في رواية –لابن العماد الحنبلي - أن الحكمين اتفقا على أن يخلع كل واحد صاحبه ، فخلع أبو موسى عليا ، و لم يخلع عمرو بن العاص معاوية بن أبي سفيان . (*3)
--------------------------------------------------------------------
ذلك هو موجز الرواية المشهورة عن اجتماع الحكمين و ما انتهيا إليه ، ..
و سينصب نقدي لها على الإسناد و المتن :
ففيما يخص الإسناد فإن من رجالها –حسب رواية الطبري- أبو مخنف لوط و هو اخباري متعصب ضعيف لا يوثق به عند علماء الجرح و التعديل ،و هذا يعني أن رواياته مرفوضة من حيث الإسناد .
و أما متنها فهو في غاية الاضطراب و الغرابة ،و سينصب نقدي له على:
● موضوع الاجتماع ، ● و شخصية الحكمين ، ● و قرار الحكمين.
☆ فبخصوص الموضوع :
فإن الرواية قد صرّحت أن الحكمين قد ناقشا موضوع الخلافة و اتخذا منه موقفا مشتركا .
و هذا أمر مشكوك في صحته ،و مستبعد جدا و يصعب تصديقه ، لأن سبب الخلاف بين الطائفتين هو قضية قتلة عثمان و ليس مسألة الخلافة ،...
● إذ لم يكن هذا الأمر قد ظهر ،
● و لم يكن أهل الشام يطالبون بالخلافة لمعاوية ،
● و ما كانوا ينكرون حق علي فيها .
فهل يعقل أن يترك الحكمان البت في سبب الفتنة ، و يناقشان أمرا غير مطروح البتة ! ؟ .
أليس هذا من علامات تلاعب الإخباريين بالرواية و تصرّفهم فيها ؟ .
☆ و أما بالنسبة لشخصية الحكمين أبي موسى ، وعمرو بن العاص-رضي الله عنهما- فإن الرواية المشهورة قد :
● وصفت الأول بأنه مغفل و ضعيف الرأي ،
● و الثاني وصفته بأنه مكار و مخادع و داهية ،
فهل لهذه المزاعم من صحة ؟
فبالنسبة لأبي موسى فإن المعروف عنه يتنافى تماما مع ما وصفته به رواية التحكيم ،
● فقد أرسله الرسول-عليه الصلاة و السلام- إلى اليمن مع معاذ بن جبل ،
● و ولاه عمر بن الخطاب إمارة البصرة و الكوفة ،و أثنى عليه بالفهم و خصّه بكتابه الشهير في آداب القضاء و قواعده .
● و كان من أعلم الصحابة و اقضاهم و جاهد زمن الرسول و بعده ،
● و هو الذي فتح مدينتي اصفهان و تستر . (*4)
فهل يعقل أن يكون من هذه صفاته و أعماله مغفلا ضعيف الرأي ؟
و هل يقود المغفل الجيوش و يتولى القضاء و الإمارة ؟ أليس ما اتهم به أبو موسى هو بهتان مكشوف و كذب مفضوح ؟
و قد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي المالكي(ق:6ه) أن الطائفة التاريخية الركيكة عندما أرادت تزييف التاريخ روّجت بين الناس :
● أن أبا موسى كان أبلها ضعيف الرأي محدود القوى ،
● و أن عمرو بن العاص كان داهية ضربت الأمثال بدهائه ،
كل ذلك ليسهل لها تحقيق ما أرادته ..
( العواصم ص : 127 ) .
و مما يؤسف له أن الباحث توفيق المدني قد وقع تحت تأثير مزيفي التاريخ ، عندما أساء الأدب مع الصحابي أبي موسى الأشعري ، فوصفه بأنه درويش و لم يستح من ذلك (*5).
و إني لأتعجب منه كيف تجرأ على وصف صحابي جليل بذلك الوصف المشين المكذوب، إرضاء لمؤلف كتاب : الخوارج هم أنصار الإمام علي . (*6)
و أما عمرو بن العاص :
● فقد شهد له التاريخ بالفطنة و الذكاء و الحزم ،
● و أنه أسلم قبل الفتح و هاجر إلى المدينة طواعية ، و مدحه الرسول-صلى الله عليه و سلم- بالإيمان عندما قال : ( أسلم الناس و آمن عمرو بن العاص )-
حديث حسن رواه أحمد و الترمذي-،
● و ولاه إمرة جيش غزوة ذات السلاسل و تحت إمرته كبار الصحابة ، و حديثه مروى في الصحيحين و غيرهما من كتب الحديث ...(*7)
لذا فإنه من المستبعد جدا أن يصدر عنه ما نسب إليه من مكر و خداع و كذب , و إنما المحترفون المزيفون للتاريخ وجدوا في شخصيته فرصة للطعن فيه عن طريق المبالغة في وصف دهائه ، ليسهل لهم الكذب و التحريف و التلاعب بالإخبار .
☆ و فيما يخص قرار الحكمين و ما جرى بينهما من نقاش ،
فيلاحظ عليه :
أولا أن هنالك اختلافا بين الروايات في الأمر الذي اتفق عليه الحكمان ،
● فرواية تقول أنهما اتفقا على خلع علي و معاوية ، و تركا الأمر شورى بين المسلمين.
● ورواية أخرى تقول أنهما خلعا الاثنين و عينا ابن عمر خليفة للمسلمين ،
● و رواية ثالثة تقول أنهما اتفقا على أن يخلع كل واحد صاحبه ، دون التطرّق لمصير الخلافة ، أفلا يدل هذا الاختلاف في قرار الحكمين على تلاعب الرواة بتلك الروايات ؟.
و ثانيا إنه يتبين للمتدبر فيما جرى بين الحكمين-حسب الروايات- :
● أن في الأمر ما يوحي بأنه مدبر و مخطط له سلفا ،
●و أنه مسرحية غير محبوكة الأدوار ، حاكها محترفوا تزوير التاريخ ،
فمن ذلك أن رواية الطبري زعمت أن أبا موسى عندما أراد التكلم ، تدخل ابن عباس فنصحه و حذّره من مكر ابن العاص ، و كأن أبا موسى طفل لا يفهم و غبي أبله ، و هذا باطل لا يصح في حقه ،و قد سبق و أن بينت أنه كان عالما متبحرا ،و قائدا مظفرا ،و قاضيا فطنا ،و أميرا محنكا .
و ثالثا أن الروايات التي ذكرت حادثة التحكيم قد ضخّمت أمر من يتكلم الأول ، الأمر الذي جعل ابن عباس يتدخل و ينصح أبا موسى بالتأخر ليسبقه ابن العاص، ثم أظهرت الرواية أن أبا موسى لم يستجب و لم يتفطن للحيلة فكان ذلك سبب فشله و مكر عمرو به .
و هذا –في اعتقادي- تعليل مضحك سخيف ،و كلام فارغ يدل على تلاعب الرواة بتلك الروايات، لأن المسألة ليست في التقدم و التأخر ، ....
فإذا افترضنا أن ابن العاص كان فعلا يريد المكر بأبي موسى ، ففي مقدوره أن يتكلم هو الأول و يحقق ما خطط له ، فيقول –مثلا- : لقد وافق أبو موسى على خلع علي و معاوية ، و أنا أوافقه على خلع علي ، و لا أوافقه على عزل معاوية ، فهو ولي عثمان و المطالب بدمه،و أولى من يخلفه في منصبه .
أليس بهذا التصرف يكون قد قطع الطريق كلية أمام أبي موسى ؟
-------
(*ونضيف نحن أيضا أنه كان بمقدور أبي موسى عندئذ أن يكذب عمرو فيقول ليس هذا ما اتفقنا عليه .. وأن يتراجع فيثبت عليا في الخلافة )*جواهر
-------
و رابعا انه يلاحظ على ما جرى بين الحكمين-بناء على ما قالته الروايات- :
● أنهما تسابا و تشاتما ،و طعن بعضهما في بعض .
و هذا أمر مستبعد جدا ، لأنه يتنافى مع المتواتر من أخلاق الصحابة و آدابهم ، و قد مدحهم القرآن الكريم و أثنى عليهم .
و قد يزعم الطاعنون في الصحابة بان هؤلاء –بعدما اقتتلوا – انحرفوا عن الشرع ،و فقدوا أخلاقهم و آدابهم .
و هذا زعم باطل لا يصدق على الصحابة ، لأنهم دخلوا في الفتنة مجتهدين متأولين طالبين للحق ،و لم يدخلوها منحرفين ظالمين خارجين عن الدين ،
فهم طائفتان مؤمنتان مقتتلتان ، يصدق عليهم قوله تعالى : (( و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا . . .)) .
------------------------------------------------------
و لأبي بكر بن العربي ،و ابن تيمية ، رأيان في قرار التحكيم جديران بالتدبر و التنويه ،
فالأول يقول :
● إن الناس قد تحّكموا في أمر التحكيم ( فقالوا فيه ما لا يرضاه الله ،و إذا لحظتموه بعين المروءة –دون الديانة- رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب- في الأكثر- عدم الدين ، و في الأقل جهل مبين )،
● و أما ما روى عما جرى بين الحكمين فهو( كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط و إنما هو شيء أخبر به المبتدعة ،و وضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهل المجانة و الجهارة بمعاصي الله و البدع ).... .(*8)
و أما الثاني : فيرى :
● أن الحكمين عندما التقيا اتفقا على عزل معاوية بن أبي سفيان عن ولايته على الشام لا عزله عن كونه خليفة ، لأنه لم يكن خليفة و لم يدع لنفسه الخلافة إلا بعد اجتماع الحكمين . (*9)
-------------------------------------------------------------------
و ختاما لهذا المبحث يتبين من مناقشتنا للرواية المشهورة عن اجتماع الحكمين ، أن إسنادها غير صحيح ،و متنها مضطرب مشكوك فيه ،و مظاهر التحريف بادية عليه ، لذا لا يمكن الوثوق فيها و الاحتجاج بها و الاطمئنان إليها ،و يزيدها ما يأتي ضعفا و استبعادا .
-------------------------------------------------------------------
(2): روايات تخالف الرواية المشهورة عن قرار الحكمين :
وهي ثلاث روايات تخالف المشهور عن قرار الحكمين :
الرواية الأولى ما رواه الطبري عن الشهاب الزهري ، مفادها أن الحكمين لما اجتمعا حضرت طائفة من الصحابة المعتزلين للحرب ، ووفد أهل الشام ،و لم يحضر وفد أهل العراق ،
فكان الذي جرى بين الحكمين أن قال عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري :
{ يا أبا موسى أأنت على أن نسمي رجلا يلي أمر هذه الأمة ؟ فسمه لي فإن أقدر على أن أتابعك ، فلك عليّ أن أتابعك ،و إلا فلي عليك أن تتابعني . .....
قال أبو موسى : أسمي لك عبد الله بن عمر …..فقال عمرو : إني أسمي لك معاوية بن أبي سفيان ، فلم يبرحا مجلسهما حتى تسابا ، ....
ثم خرجا إلى الناس فقال أبو موسى : إني وجدت مثل عمرو بن العاص مثل الذين قال الله –عز و جل –فيهم : " و اتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها " – سورة الأعراف /175- ، .....
فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال :
أيها الناس وجدت مثل أبي موسى ، كمثال الذي قال عز و جل : " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا "-سورة الجمعة/5-
و كتب كل واحد منهما مثله الذي ضربه لصاحبه إلى الأمصار } . (*10)
هذه الرواية إسنادها غير صحيح ، لأن من رجاله : عبد الله بن أحمد ،و سليمان بن يزيد ، الأول غير ثقة ، و الثاني ليس بالقوي و لا يحتج به ..
(الذهبي : ميزان الاعتدال ج2 ص:228،390،391 ) ،
و هي تشبه الرواية المشهورة فيما جرى بين الحكمين ، لكنها ذكرت ما لم يرد في الرواية المشهورة فقد ذكرت أن وفد العراق لم يحضر إلى التحكيم ،و أن الحكمين تسابا قبل خروجهما إلى الناس ، فلما خرجا إليهم طعن كل منهما في الآخر ثم تفرّقا دون ذكر لحكاية الاتفاق و العزل و المكر .
فهذه الرواية – على ضعفها- يمكن استخدامها كدليل ضعيف لنقد الرواية المشهورة الضعيفة هي الأخرى ، لضرب الضعيف بالضعيف ، و اظهار مدى تلاعب الاخباريين بالروايات التاريخية و تصرفهم فيها .
------------
و أما الرواية الثانية فرواها المسعودي ، و فيها أنه لم تم اللقاء ، قال عمرو بن العاص لأبي موسى :
{ سم ّ من شئت حتى أنظر معك ، فسمّ أبو موسى ابن عمر و غيره ، ثم قال لعمرو : قد سميت أنا ، فسمّ أنت ، قال : نعم أسمي لك أقوى هذه الأمة ،و أسداها رأيا ،و اعلمها بالسياسة ، : معاوية بن أبي سفيان ، ..
قال : لا و الله ما هو لذلك بأهل ، قال : فآتيك بآخر ليس هو بدونه ، قال : من هو ؟ قال : أبو عبد الله بن العاص،-أي نفسه- فلما قالها علم أبو موسى أنه يلعب به ، فقال : فعلتها لعنك الله ،و لعن الذي أرسلك...
فتسابا و لم يخطبا على الناس و تفرقا ، فلحق أبو موسى بمكة ،و انصرف عمرو بن العاص إلى منزله و لم يذهب إلى معاوية .} (*11)
فهذا الخبر رواه المسعودي بلا إسناد –كعادته في معظم ما يرويه- ،و هو يتفق مع الرواية المشهورة في حدوث السب و الطعن ،...
لكنه يخالفها في أن الحكمين لم يتفقا على شيء ،و أنهما انصرفا دون أن يخطبا في الناس ،و أن ابن العاص لم ينصرف إلى معاوية لمبايعته بالخلافة و إنما انصرف إلى منزله .
و هذا خلاف جوهري بين الروايتين ، يزيد الرواية المشهورة ضعفا و استبعادا ، و يؤكد ما قلته سابقا من أن الرواة قد تلاعبوا برواية التحكيم و حرّفوها .
------------
و الرواية الثالثة رواها أبو بكر بن العربي عن الدارقطني بإسناده إلى التابعي صاحب الإمام علي : حضين بن المنذر ، (*12)
و فيها :
{ أنه لما عزل عمرو بن العاص معاوية ، جاء حضين بن المنذر فضرب فسطاطه قريبا من فسطاط معاوية ، فبلغ خبره معاوية فأرسل إليه ، فقال : إنه بلغني عن هذا –أي عمرو بن العاص- كذا و كذا – أي عزله لعلي و معاوية - فأذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه .....
ثم يقول حضين -: فأتيته فقلت اخبرني عن الأمر الذي وليت انت و أبو موسى ، كيف صنعتما فيه ؟...
قال : قد قال الناس في ذلك ما قالوا ،و الله ما كان الأمر على ما قالوا ،و لكن قلت لأبي موسى : ما ترى في هذا الأمر ؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفى رسول الله –صلى الله عليه و سلم- و هو عنهم راض .
قلت : فأين تجعلني أنا و معاوية ؟، فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة ،و إن يستغن عنكما ، فطالما استغنى أمر الله عنكما } .(*13)
فهذه الرواية أكدت أن عمرو بن العاص لم يخن أبا موسى الأشعري ، و أنه عزل معاوية و لم يثبته ، وفقا للاتفاق الذي تم بينهما .....
و أنه-أيضا – انكر ما أشاعه الناس عن التحكيم ، من خداع و سب و مكر ، و ذكر أنه وافق أبا موسى في اقتراحه ترك أمر الخلاف للصحابة الذين توفى الرسول و هو عنهم راض ، ثم انصرفا و لم يذهب هو إلى معاوية .
فهذا الخبر يناقض الرواية المشهورة عن قرار الحكمين ،و يقلبها رأسا على عقب ،
لكنه لم يبين مقصود الحكمين من الأمر الذي اتفقا عليه و أرجعاه إلى كبار الصحابة ، أهو أمر الخلافة ، أم هو أمر قتلة عثمان ؟
و في هذا الشأن يرى الباحث محب الدين الخطيب :
(أن الأمر الذي اتفق الحكمان على تركه لأعيان الصحابة هو الإمامة .)..... (*14)
لكن الباحث محمد أمحزون يرى أنه :
( ليس من شك في أن أمر الخلاف الذي رأى الحكمان رده إلى الأمة أو إلى أهل الشورى ليس إلا أمر الخلاف بين علي و معاوية حول قتلة عثمان ، و هو ما أطبقت على ذكره المصادر الإسلامية ، ....
أما الخلاف حول الخلافة فلم يكن نشأ عندئذ ، و لم يكن معاوية مدعيا للخلافة ،و لا منكرا حق علي فيها ، و إنما كان ممتنعا عن بيعته و عن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبا عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون ، مستفيدا من طاعة الناس له ، بعد أن بقي واليا فيها زهاء عشرين سنة ).
ثم ذكر هذا الباحث رواية عن القاضي أبي بكر الباقلاني مفادها أن الحكمين ما اتفقا قط على خلع علي بن أبي طالب عن الخلافة .(*15)
و أنا أوافق الباحث محمد أمحزون فيما ذهب إليه من أن مسألة قتلة عثمان هي التي أرجأ الحكمان البت فيها إلى كبار الصحابة ، ....
لأن هذه القضية هي سبب القتال ،و هي التي تتفق مع سياق الحوادث التاريخية ، و لأن رواية الدارقطني و الباقلاني لم تذكرا أن الحكمين عزلا عليا عن الخلافة ، مما يؤكد أنهما لم يتناقشا في موضوع الخلافة ، لأنه كان محسوما ،و لم يكن أحد ينازع عليا فيه .
لكن إذا كانت قضية قتلة عثمان هي التي بتّ فيها الحكمان ، و لم يكن أمر الخلافة موضوعا للمناقشة ، فعن ماذا عزل معاوية بن أبي سفيان ؟ .
لم تصرّح رواية الدارقطني عن ماذا عزل ، لكن يبدو أن العزل خصّ أحد أمرين أو هما معا :-
● الأول عزل معاوية عن إمارة الشام ،
● و الثاني إبعاده من أن يكون ضمن كبار الصحابة الذين يتولون البت في مسألة قتلة عثمان .
● و الثالث عزله عن الأمرين .
فبخصوص عزله عن الشام فهو أمر مستبعد جدا ، ليس له علاقة مباشرة بموضوع اجتماع الحكمين –الذي هو قتلة عثمان - ،و لأنه ليس حلا عمليا بسبب ما يجده من معارضة أكيدة من معاوية و أهل الشام ، و يزيد الأمر تعقيدا .
لذا فالاحتمال الثاني هو الوارد و المقصود أي استبعاد معاوية من أن يكون ضمن كبار الصحابة الذين يتولون البت في مسألة قتلة عثمان .
و يدعم ذلك الإحتمال قول عمرو بن العاص في رواية الدارقطني حين قال : ( قلت فأين تجعلني أنا و معاوية ؟ فقال –أي أبو موسى- إن يستعن بكما ففيكما معونة ،و إن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما)،
فقوله هذا فيه إشارة إلى أن عمرو ابن العاص و معاوية قد استبعدا من جماعة الصحابة التي تتولى أمر البت في قتلة عثمان .
------------
و أما مصير اتفاق الحكمين ، فإنه من الثابت أنه لم يعرف طريقه إلى التطبيق ، ربما لأن عليا-رضي الله عنه- قد انشغل بمشاكل جيشه ، و أنه لم يكن في مقدوره الاقتصاص من قتلة عثمان بعدما تغلغلوا في جيشه و تموقعوا فيه ، خاصة بعدما خرج عليه الخوارج بسيوفهم ،و السبئية بأفكارهم الملحدة .
و يبدو من جهة أخرى أن معاوية لم يكن متحمسا للمشاركة الفعالة لتنفيذ قرار الحكمين بسبب صعوبة تنفيذه ، فهو مشغول بإمارته في الشام ،و علي في نزاع مع الخوارج و السبئية .
و لأنه- معاوية- على ما يبدو لم يكن راضيا كل الرضى عن قرار الحكمين عندما عزلاه عن جماعة الصحابة الذين يبتون في أمر قتلة عثمان ،...
و مما يدعم ذلك أن ابن العاص عندما فارق أبا موسى لم يذهب إلى معاوية ليخبره بقرار الحكمين ، و إنما التحق ببيته لإحساسه أن معاوية قد لا يرضيه ذلك العزل.
-------------------------------------------------------------------
و ختاما لهذا الفصل يتبين منه أن الروايات الثلاث الأخيرة تخالف الرواية المشهورة في خبرها عن قرار الحكمين ، و أنها أثبتت أن الإخباريين قد تلاعبوا برواية التحكيم و حرفوها . و أن رواية الدارقطني هي الرواية الصحيحة ، لخلو إسنادها من المعروفين بالكذب (*16)
–كما هو حال الروايات السابقة ، كرواية الطبري- ،و لأنها خلت من المطاعن و الشكوك التي أثيرت في نقدنا للروايات السابقة الذكر . و لأنها –أيضا- لا تتعارض مع أخلاق الصحابة ،و تتوافق مع سياق الحوادث التاريخية .
-------------------------------------------------------------------
(*1)الطبري: المصدر السابق ج3 ص: 101، 105،106 .و اليعقوبي : المصدر السابق ج2 ص: 135 .و المسعودي : ج2 ص:475 .
(*2)الطبري: المصدر السابق ج 3 ص: 111، 112،113 . الذهبي: الخلفاء ص: 333 .و ابن سعد : الطبقات الكبرى ج 1ص: 24 ،و ج4 ص: 194 .و المسعودي:مروج ج2 ص: 280 . و ابن الأثير : الكامل ج 3 ص: 207 .و اليعقوبي : المصدر السابق ج 2 ص: 135-136 .و ابن العماد : شذرات ج1 ص: 215
(*3) شذرات الذهب ج 1ص: 215 .
(*4)انظر: الذهبي : السير ج2 ص: 274،275،279 .و ابن العربي: العواصم ، هامش ص: 126-127 .
(*5) سليمان بن داود: الخوارج هم أنصار الإمام علي/: 16 .و توفيق المدني قدّم لهذا الكتاب المليء بالكذب
(*6) سبق و أن أثبتنا أن عليا وافق على وقف القتال طواعية ،و أن الخوارج هم الذين عارضوه ، فعندما لم يوافقهم خرجوا عليه بالسلاح فقاتلهم ، فكيف يكونون أنصاره ؟ ! .
(*7) الذهبي: المصدر السابق ج 3 ص: 55،56 .
(*8) العواصم من القواصم ص : 125، 128 .
(*9) ابن تيمية : منهاج السنة ج 2 ص:202، ج3 ص: 222 .
(*10) الطبري: المصدر السابق ج 3 ص: 105-106 .
(*11) مروج الذهب ج 2 ص: 481 .
(*12) باقي رجال الإسناد هم : ابراهيم بن همام ،و أبو يوسف الفلوسي و هو يعقوب بن عبد الرحمن بن جرير ,،و الأسود بن شيبان ،و عبد الله بن مضارب . ابن العربي : العواصم هامش ص : 129 .
(*13) نفسه ص : 129 .
(*14)ابو بكر بن العربي : المصدر السابق هامش ص: 129 .
(*15)تحقيق مواقف الصحابة ج2 ص: 233-
(*16)انظر: الذهبي : الكاشف ، حققه احمد الخطيب ط1 ، جدة دار القبلة 192 ج1 ص: 251، 340 . و راجع : الضعفاء للعقيلي ،و كتاب المجروحين لابن حبان ،و ميزان الاعتدال للذهبي ج 2 ص: 506 .
----------------
☆ قضية التحكيم في موقعة صفين بين الحقائق والأباطيل .د. خالد كبير علال ص41-30
-------------------------------------------------------------------
في الفقرتين القادمتين إن شاء الله سنعرض مزيدا من التوضيح من كتابي د. على الصلابي الدولة الأموية و د. راغب السرجاني قصة الفتنة.
تابعونا #الدولة_الأموية_جواهر [20]
إرسال تعليق