تاريخ الدولة البيزنطية (4)
-------------------------------------------
ملخص ماسبق :
كان قسطنطين(306م - 337م) هو أول إمبراطور يسمح للمسيحيين بممارسة شعائرهم أسوة بمختلف الديانات الموجودة، وذلك بالوثيقة المعروفة باسم "مرسوم ميلانو" الصادر سنة 313م.
أصدر مرسوم ميلانو كلا من الإمبراطور قسطنطين والإمبراطور ليكنيوس؛ وكان ليكنيوس حاكما على الجزء الشرقي من الإمبراطورية (308م - 324م) ..
استخدم قسطنطين قوة الامبراطورية وعظمتها في محاولة لتوحيد الكنائس وإنهاء النزاع الذي بدأ يظهر وقتذاك بين رجال الدين ؛ ودعاهم لعقد المجمع المسكوني الأول بنيقيه ٣٢٥م ؛ وتصرف كامبراطور وبابا بيزنطي في آن واحد
(Byzantine Caesaropapism )
وترأس ذلك المؤتمر وفرض على الأساقفة القرارات اللاهوتية التي قضاها المؤتمر .
وفي سنة 324م انتصر قسطنطين على شريکه لیکینیوس
وانفرد بحكم الامبراطورية الرومانية وبدأ في بناء عاصمته الجديدة (القسطنطينية) و أتم العمل سنة 330م فصارت تنافس روما، عاصمة الغرب .
ويرى شارل ديل Charles Diehl وغيره أن يوم 11 مايو 330م ، وهو يوم تدشين القسطنطينية ، هو يوم ولادة الدولة البيزنطية . كما يؤكد رنسیمان Runciman أن عام 330م هو خير تاريخ يمكن اتخاذه نقطة بداية التاريخ البيزنطی.
وقد انتقل مركز الثقل السياسي للإمبراطورية الرومانية من روما إلى مدينة قسطنطين الجديدة . في الشرق الذي كان أغنى بموارده الاقتصادية وأكثر سكانا من الغرب .
وكذلك كان تخلصا من مشكلات حربية في الغرب ، حيث اشتدت هجمات الجرمان البرابرة ، كما كان لابد من الوقوف في وجه الخطر الفارسي الساساني و إدارة الجيوش من مكان أقرب لأرض الشرق .
بعد وفاة قسطنطين الكبير سنة 337م قسمت الدولة البيزنطية بين أبنائه الثلاثة قسطنطين الثاني ؛ وقسطنطیوس ؛ وقنسطانز - وشب نزاع بين الأخوة الثلاثة قتل خلاله قسطنطين الثاني سنة 340م ؛ ثم قنسطانز سنة 350م ، واستطاع قسطنطیوس توحيد الامبراطورية في تلك السنة 350م واستمر حكمه حتى سنة 361م .
لم يكن لدى قسطنطیوس أولاد ليرث أحدهم العرش .. ولم يبق من أسرة قسطنطين سوی جوليان Julian ابن عمه ..
و كان قسطنطیوس قد دبر اغتيال أخيه جاللوس Gallus ابن عمه الآخر سنة 354م، وعين جوليان في السنة التالية 355م قیصرا ، وزوجه من أخته هيلينا Helena ... فورث جوليان العرش بعد موت قسطنطیوس .
وكان جوليان يشعر بعداء شديد للمسيحية ، لهذا أصدر قرارا بإعادة فتح المعابد الوثنية ؛ و بدأ يمارس التضييق و الإضطهاد ضد المسيحيين فعزلهم من الوظائف المدنية ؛ والتدريس؛ والعسكرية ، وعين وثنيين مكانهم ، ورفع الصلبان والرموزالمسيحية وأبدلها بشارات وثنية .
-------------------------------------------------------------------
غير أن جوليان لم يحكم سوى مدة قصيرة ( 361-363م ) مما أنقذ الدولة البيزنطية من حركة الردة الى الوثنية .
ففي ربيع سنة 336م غادر جوليان أنطاكية بعد توقف قصير فيها ؛ في طريقه لحرب الفرس حتى يقضي على غاراتهم على مملكة ارميئية وبلاد ما بين النهرين ، وأصيب جوليان في معركة ضد الفرس بطعنة رمح اودت بحياته بعد ذلك بقليل . ولم يعرف من الذي طعن الامبراطور بهذا الرمح ..
️بعد أزمة الإرتداد إلى الوثنية ؛ تعرضت الإمبراطورية الرومانية لهزة أخرى عنيفة في نهاية القرن الرابع الميلادي ، فقد انسابت القبائل الجرمانية مغيرة على أقاليم الدولة في الشرق ،
ومن الجدير بالذكر أن القوط الجرمان هددوا الدولة البيزنطية ذاتها في الشرق قبل توغلهم في الغرب ، فمع بداية القرن الأول الميلادي استقر القوط على الشواطىء الجنوبية للبحر البلطي ، وحوالى النصف الثاني من القرن الثاني هاجروا جنوبا حيث استقروا شمالي البحر الأسود ، وأقاموا في المقاطعات الواقعة في حوض الدانوب الأدنى .
وهناك انقسم القوط الى طائفتين :
▪︎القوط الشرقيون Ostrogoths أو Ostgoths
▪︎و القوط الغربيون Visigoths
وتأثر القوط ثقافيا بالمستعمرات اليونانية الواقعة على شواطىء البحر الأسود ، وبالتالي تأثروا بالحضارة الرومانية ، وفي القرن الثالث انتهز القوط الفوضى والاضطراب و الضعف الذي عانت منه الامبراطورية كثيرا ، فاستولوا على الشواطىء الجنوبية للبحر الأسود وغزوا کریمیا Crimea وآسيا الصغرى ،
وأثناء تقدمهم على الساحل الغربي للبحر الأسود أبحروا في نهر الدانوب وأخذوا طريقهم إلى بحر مرمرة ، واخترقوا الدردنيل ونهبوا کزیکوس Cyzicus ونيقوميديا وغيرهما ،
وذهب القراصنة القوط إلى أبعد من ذلك بأن هاجموا مدينتي إفيسوس Ephesus وسالونيك Thessalonica وما أن وصلوا الى شواطىء اليونان حتى هاجموا گورنثه وأثينا ، وأغاروا على جزر گریت ورودس وقبرص في غارات متعددة للنهب والسلب ، وعادت سفنهم محملة بالغنائم إلى مواطنهم عند الشواطىء الشمالية للبحر الأسود .
وزاد خطر القوط لدرجة أن اضطر الامبراطور جوردیان Gordian ؛ (238 - 244م) الى دفع إتاوة سنوية لهم . وعندما خرج إليهم الإمبراطور دکیوس Decius لصدهم سقط أمامهم صريعا في سنة (251م )
وبتوالي السنين دخل القوط في خدمة الجيش الروماني فقد كانت هناك فرقة من القوط في الجيش الروماني تحت قيادة
ماکسیمیان الذي أعتزل العمل السياسي سنة (305م) كما سبق ذكره .
وخدم القوط في جيش قسطنطين الكبير في نزاعه ضد لیکینیوس وأمدوه بأربعين ألف جندي ، وقد اعتنق القوط المسيحية ، ومن المحتمل أنها انتقلت اليهم عن طريق الأسرى المسيحيين الذين أسرهم القوط من أقاليم آسيا الصغرى في حملاتهم البحرية المتعددة ..
ويرجع الفضل إلى الأسقف أولفيلا Ulfila أو ولفيلاس Wulfilas ؛ ( 311 - 361م) في إعتناقهم المسيحية في القرن الرابع : وهو قوطي المولد قضى سنوات عديدة في القسطنطينية حيث تلقى تعليمه ، واعتنق المسيحية على المذهب الأريوسي ، ونقل الإنجيل الى اللغة القوطية وكان لهذا أثر كبير في تاريخ القوط و عدم اندماجهم مع سكان الدولة البيزنطية التابعين لمذهب نيقيه ۰
وكان على الدولة البيزنطية أن تواجه مشكلة خطيرة أخري في الوقت الذي هدد فيه القوط کيان الدولة ذاتها ، ففي سنة (3796 م) تقدم الهون الآسيويون Huns من أواسط آسيا نحو أقاليم الإمبراطورية ..
والهون من القبائل الرعوية من مناطق الإستبس التي خرج منها سلسلة من الغزاة الرعويين ، الذين أحدثوا الرعب في المجتمعات المستقرة في العالمين المسيحي والاسلامي .
ومن هؤلاء الغزاة الذين اتجهوا من وسط آسيا الى الغرب : البلغار والآفار و الباتزيناك ( البشناق ) والغز والكومان والمغول .
وخرج الهون من وسط آسيا مرغمين من خلال المنفذ الواقع بين جبال أورال وبحر قزوین • وظهروا أولا في جنوب روسيا حيث شتتوا قبائل الآلان Alans و هزموا القوط الشرقيين ، وأرغموا القوط الغربيين على الإتجاه ناحية الدولة البيزنطية بعد هزيمتهم أمامهم عند نهر دنيستر Dniester Rive •
وفي سنة( 376 م) إلتمس القوط الغربيون من إمبراطور القسطنطينية فالنس Valens السماح لهم بعبور نهر الدانوب ليسلموا من خطر الهون ، والمقام جنوب الدانوب ، وتعهدوا بزراعة الأرض ، ووعدوا تقديم الجنود الجيش البيزنطي ، وأن يطيعوا كل أوامر الامبراطور .
ويقال أنه دخل الامبراطورية حوالي 400 - 500 ألف قوطی نصفهم من المحاربين ، وأجابهم فالتمس إلى مطلبهم دون أن يدرك أخطار وجود شعب كامل السلاح يهدد السكان الأصليين في الأراضي الرومانية بنية النهب والسلب وسرعان ما تضايق القوط من سوء معاملة القادة والموظفين البيزنطيين لهم .
ولم تجد شكاواهم أذنا صاغية ، فثار القوط وحصلوا على مساعدات من قبائل الآلان وغيرهم ، وتقدموا إلى تراقيا قاصدين القسطنطينية ذاتها ؛ وكان الامبراطور فالنس وقتذاك
في حملة حربية ضد الفرس ..
وعندما وصلته أخبار القوط، غادر أنطاكية إلى القسطنطينية ، وفي يوم (9 أغسطس 378 م) إلتقى فالنس جموع القوط الغربيين على مقربة من مدينة أدرنة Hadrianople - و قد هزم الجيش الإمبراطوري هزيمة ساحقة ، وقتل الإمبراطور فالنس ومعه ثلثا قوات الامبراطورية.
ولم يستغل القوط إنتصارهم ! ؛ فعندما ظهروا أمام أدرنة والقسطنطينية لم يستطيعوا اقتحام أسوار تلك المدن
اليونانية الحصينة لعدم توفر آلات الحصار لشدة بداوتهم .
وكان لهزيمة فالنس أمام القوط نتائج خطيرة ، فقد انتشر القوط في شبه جزيرة البلقان حتى أسوار القسطنطينية . وكان على الدولة البيزنطية ، ولم يمض بعد نصف قرن من الزمان على ولادتها ، أن تصارع في سبيل الدفاع عن كيانها . وأصبح واضحا استحالة تحقيق إنتصار عسكري على القوط، وكان لابد من مسالمتهم للخروج من الموقف البائس للدولة البيزنطية ..
وفي سنة (379م) تولى ثيودوسيوس الأول أو العظيم Theodosius I عرش بیزنطة. ورغم أنه امبراطور عسکری الا أنه سمح للقوط في سنة ( 382م )بالاستقرار في الأطراف الشمالية من تراقيا ومنحهم السيادة الكاملة والإعفاء من الضرائب مقابل الخدمة العسكرية التي تعهدوا بتقديمها إلى الإمبراطورية ؛ واشترط الإمبراطور عليهم أن يكونوا في خدمة الإمبراطورية معاهدين .
ولما كان ثيودوسيوس الأول معجبا بصفات القوط وشجاعتهم فقد استخدم أعدادا كثيرة منهم في الجيش الامبراطوري .
وبهذه الطريقة تجنبت الدولة البيزنطية تغلغل الجرمان في أراضيها ،.بل أصبحوا في خدمة الجيش ، وارتقى جماعة منهم الى منصب القيادة في جيوش بیزنطة •
ومنذ نهاية القرن الرابع حتى عصر الامبراطور البيزنطی جستنيان Justinian ؛ في منتصف القرن السادس وقع الغرب في براثن الجرمان !!
فبعد موت ثيودوسيوس العظيم سنة( 395م ) قسمت الإمبراطورية بين ولديه ، فكان الشرق من نصيب أركاديوس Arcadius ؛ والغرب من نصيب هونوريوس ؛ وكان ذلك في الوقت الذي ازداد فيه نفوذ الجرمان السياسي والحربي داخل الإمبراطورية ، واعتمد هونوريوس في الغرب على قائد جرمانی وندالى قدير اسمه ستيليكو Stilicho ليتمكن من الوقوف في وجه القوط الغربيين ، ونجح ذلك القائد في إجهاض محاولات القوط الغربيين بقيادة ألارك Alaric في غزو إيطاليا وذلك بالحاق الهزيمة بهم سنة (403م) في معركة جرت عند بلدة بوللنتيا .
واتهم ستیلیكو بعد ذلك بتحالفه مع ألارك وقوبل بمعارضة شديدة من السناتور الروماني ، مما أدى إلى تذمر بين الجند ، واضطر هونوريوس الى التضحية بستیلیكو وأمر باغتياله في( 22 أغسطس 408 م )متهما إياه بالإهمال في حماية حدود الإمبراطورية وتعاطفه مع ألارك .
وانتهز الأرك فرصة التخلص من ستیلیكو وأتباعه فزحف مع
جماعات من القوط الغربيين نحو إيطاليا ، واقتحموا مدينة روما وحاصروها ونهبوها سنة( 410 م )، وتأثر الرومان كثيرا من حادث سقوط روما في أيدي القوط لأنها لم تسقط قط حتى عندما غزا هانيبال إيطاليا ، واعتبروها كارثة معنوية وعسكرية ودينية ، وظن الناس أن نهاية العالم قد اقتربت ، واتهمت المسيحية بأنها قضت على الطموح السياسي و القومي في نفوس الرومان ، وأن تعاليمها كانت سبب الكارثة
التي حلت بروما العظيمة .
وانبرى القديس أوغسطين للدفاع عن المسيحية وفند هذه المزاعم ورد هذه على الاتهامات في كتابه المعروف ( مدينة الله De Civitate Dei ) الذي بدأ في كتابته سنة 413م وانتهى مثه سنة 426م •
وكان في إمكان ألارك العبور إلى أفريقية والإستقرار هناك مع أتباعه القوط إلا أنه مات فجأة في نهاية عام( 410 م )، وقاد خليفته فالليا Wallia القوط شمالا واستقر بهم في جنوب بلاد الغال(فرنسا) حيث تلقي تعليمات الإمبراطور بطرد قبائل جرمانية أخرى استقرت هناك حديثا، ...
فقد أنتهزت قبائل السويفي Suevi والآلان Alans
و الوندال Vandals فرصة انشغال القائد ستیلیكو مع ألارك في شمال إيطاليا وإقليم الليريا وتقدموا الى غاليا في طريقهم إلى أسبانيا متبعین سياسة النهب والسلب ..
وفي غاليا تلقى قائد الوندال جزريك Gaiscric طلبا من الحاكم البيزنطي في شمال أفريقية ، وكان خارجا عن سلطة
الدولة ، لمساعدته ووعده في مقابل ذلك بنصف الولايات البيزنطية في شمال أفريقية ..
وفي سنة( 429 م ) عبر الوندال و الآلان إلى الساحل
الأفريقي ، وفي سنة ( 439 م )استولى جزريك على قرطاجة ، وزادت قوته وسطوته لدرجة أن هاجم مدينة روما ذاتها سنة( 455 م) ، وأغار على البيلوبونيز سنة( 465م )۰
أما إيطاليا فقد أصبحت غنيمة سهلة لقبائل الهون الأسيويين
والقوط الشرقيين . فالهون كانوا قد أقاموا على شواطىء البحر الأسود حتى سنة ( 425م ) عندما نفذوا بقيادة قائدهم أتيلا Attila إلي تراقيا وهددوا العاصمة القسطنطينية ؛ ولكي تتجنب الدولة البيزنطية إغاراتهم المخربة إضطرت إلى دفع إتاوات مالية كبيرة لهم .
وفي سنة ( 447م ) حول الهون أنظارهم إلى الغرب بحذاء الدانوب ، ثم عبروا الراين وهاجموا بلاد الغال ، وتحالف القوط الغربيون مع الجيوش الرومانية ضد الهون ، وأنزلوا بجموعهم هزيمة ساحقة قرب شالون سنة (451م) .
وفي العام التالي (452 م) قام الهون تحت قيادة أتيلا بهجوم مفاجيء على إيطاليا وهددوا روما ذاتها . وخرج البابا ليو الأول ( 440 - 461 م ) لمفاوضة أتيلا ولمنعه من دخول روما . فأوقف هجومه مقابل أموال كثيرة و زفافه على هنوريا أخت الإمبراطور ..
ولم ينقذ ايطاليا فيما بعد سوى موت أتيلا المفاجيء سنة 403 وانهيار واختفاء خطر الهون بعد أن تمزقت مملكتهم .
------------------------------------------------------------------
☆أهم الإشارات المطلوبة:
* فريونيس ، بيزنطة ، ص 30.
*فاسيليف ، الإمبراطورية البيزنطية ، 1 ، ص 68-70
*عبد القادر اليوسف ، الامبراطورية البيزنطية
ص ۲۸ - ۲۹ .
*فاسيليف ، الإمبراطورية البيزنطية ، ص 75 - 76 ص 84 - 86
*سعید عاشور ، أوروبا العصور الوسطى ج ۱، ص ۹۹ - ۷۰،
* الرومان والإمبراطورية البيزنطية ، ص ۲۹ -ص ۳۹ -
اسحق عیبد ، الإمبراطورية الرومانية بين الدين و البربرية مع دراسة في مدينة الله 1، ص ۱۳۹ - ۱٥٢، أنظر أيضا سيد الناصری ؛ الإمبراطورية الرومانية ، ص ٤٠٠
* فريونيس ، بيزنطة ، ص. 32.
- ☆المصدر :
* دراسات في تاريخ الدولة البيزنطية د. حسنين محمد ربيعة ص ٣٨ - ٤٤
إرسال تعليق