سيرة الصديق أبى بكر رضي الله عنه
(4)
إذا فاتك خير فأدركه، وإن أدركك فاسبقه
-------------------------------------------------------------------
أسلم أبو بكر رضي الله عنه فعم السرور قلب النبي صلى الله عليه وسلم ...
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
《فلما فرغ من كلامه -أي النبي عليه الصلاة والسلام - أسلم أبو بكر فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، ومابين الأخشبين أحد أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر 》...(*1).
لقد كان ابو بكر كنزاً من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافاً، من الذين يألفون ويؤلفون، ..
قال فيه عليه الصلاة والسلام :
《 أرحم أمتي بأمتي ابوبكر 》(*2)،
و كانت قريش تعترف للصديق بأنه أ علمها بأنسابها وأعلمها بتاريخها، ومافيه من خير وشر، فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علماً لاتجده عند غيره ، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائماً،..
وكانت طبقة رجال الأعمال، ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق، فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح كذلك يقصدونه،
وكان لطيبته وحسن خلقه تجد عوام الناس أيضا يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه ......(*3)،
كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيماً، ولذلك عندما تحرك في دعوته للاسلام استجاب له صفوة من خيرة الناس .. (*4).
أسلم الصديق رضي الله عنه وحمل الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعلم أن الاسلام دين العمل والدعوة والجهاد، وأن الايمان لايكمل حتى يهب المسلم نفسه ومايملك لله رب العالمين (*5)،
وقد كان الصديق كثير الحركة للدعوة الجديدة، وكثير البركة اينما تحرك أثر وحقق مكاسب عظيمة للاسلام، .. وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسه للاسلام الى أن توفاه الله عز وجل لم يفتر أو يضعف أويمّل أو يعجز .... (*6).
كانت أولى ثمار جهوده الدعوية دخول صفوة من خيرة الناس في الاسلام وهم : الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبدالرحمن بن عوف، وأبوسلمة بن عبدالأسد، والأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنهم، ...
وجاء بهؤلاء الصحابة الكرام فرادى فأسلموا بين يدى رسول اللهصلى الله عليه وسلم ، فكانوا الدعامات الاولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم أعزه الله و أيده ...
وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، رجالاً ونساءً، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية الى الاسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد والإثنان، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الاسلام.... ...(*7).
واهتم الصديق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبدالله وزوجته أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة، لقد كانت الصفات الحميدة والخلال العظيمة والأخلاق الكريمة التي تجسدت في شخصية الصديق عاملاً مؤثراً في الناس عند دعوتهم للاسلام، ... (*8)
ولقد أوذي أبو بكر رضي الله عنه وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى مايعرف وجهه من أنفه، وحمل الى بيته في ثوبه وهو مابين الحياة والموت .....(*9)،
فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لمّا اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً فألحّ أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور،
فقال : يا أبا بكر إنَّا قليل فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله جالس، فكان أوّل خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله ، صلى الله عليه وسلم ....
وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر ، حتى مايعرف وجهه من أنفه،...
وجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحَمَلت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولايشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا : والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب،....
فتكلم آخر النهار فقال : مافعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فمسّوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه. فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول : مافعل رسول الله ؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك....
فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت : إن أبا بكر سألك عن محمد بن عبدالله . فقالت : ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبدالله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك...
قالت : نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دَنِفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر إنني لأرجوا أن ينتقم الله لك منهم، قال : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قالت : هذه أمك تسمع، ! قال : فلاشيء عليك منها،
قالت : سالم صالح،
قال : أين هو؟ قالت : في دار الأرقم .
قال (أبو بكر ) : فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فأمهلتا( يعنى انتظرتا) حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال : فأكب عليه رسول الله فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة فقال أبو بكر : بأبي وأمي يارسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي،
وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وأدع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار ...
قال : فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت .....(*10). يا الله !!
لقد حرص الصديق على إعلان الإسلام واظهاره أمام الكفار رغم علمه بالأذى الذي قد يتعرض له هو وأصحابه؛ وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته وقد تحمل الأذى العظيم حتى أن قومه كانوا لايشكون في موته، ...
لقد أشرب قلبه حب الله ورسوله أكثر من نفسه، ولم يعد يهمه -بعد إسلامه- إلا أن تعلوا راية التوحيد، ويرتفع النداء لا إله إلا الله محمد رسول الله في أرجاء مكة حتى لو كان الثمن حياته، وكاد أبو بكر فعلاً أن يدفع حياته ثمناً لعقيدته وإسلامه.
إن حب الله ورسوله تغلغل في قلب أبي بكر فرغم ما ألم به، كان أول ما سأل عنه : مافعل رسول الله ، قبل أن يطعم أو يشرب، وأقسم أنه لن يفعل حتى يأتي رسول الله ... (*11).
إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبو بكر ..(*12).
وظهرت مواقف رائعة لأم جميل بنت الخطاب، توضح لنا كيف تربت على حُبَّ الدعوة والحرص عليها، وعلى الحركة لهذا الدين، فحينما سألتها أم أبي بكر عن رسول الله قالت : ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبدالله، ...
فهذا تصرف حذر سليم، لأن أم الخير لم تكن ساعتئذ مسلمة وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولاتود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول صلى الله عليه وسلم مخافة أن تكون عيناً لقريش .....(*13)،
وفي نفس الوقت حرصت أم جميل أن تطمئن على سلامة الصديق ولذلك عرضت على أم الخير أن تصحبها إلى ابنها وعندما وصلت للصديق كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب منها أي معلومة عن مكان رسول الله وأبلغت الصديق بأن رسول الله سالم صالح ....(*14)،
ويتجلى الموقف الحذر من الجاهلية التي تفتن الناس عن دينهم في خروج الثلاثة عندما : هدأت الرجل وسكت الناس (*15).
وظهر بر الصديق بأمه وحرصه على هدايتها . إنه الخوف من عذاب الله والرغبة في رضاه وجنته، ولقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم أبي بكر بالهداية فاستجاب الله له، وأسلمت أم أبي بكر وأصبحت من ضمن الجماعة المؤمنة المباركة التي تسعى لنشر دين الله تعالى، (*16).
--------------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------------
إرسال تعليق