سيرة الصديق أبى بكر رضي الله عنه 🚩 (5)

 سيرة الصديق أبى بكر رضي الله عنه



🚩 (5)
إذا فاتك خير فأدركه، وإن أدركك فاسبقه
-------------------------------------------------------------------
مر الصديق بجارية بني مؤمل حي من بني عدي بن كعب وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الاسلام، وهو يومئذ مشركاً يضربها، حتى إذا ملَّ قال: إني أعتذر إليك إني لم أتركك إلا عن ملالة فتقول: كذلك فعل الله بك فابتاعها أبوبكر فأعتقها .... ..(*1).
هكذا كان واهب الحريات، ومحرر العبيد، شيخ الاسلام الوقور، الذي عرف بين قومه، بأنه يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، ولم ينغمس في إثم في جاهليته،....
أليف مألوف يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء والأرقاء، أنفق جزءً كبيراً من ماله في شراء العبيد، وعتقهم لله، وفي الله، قبل أن تنزل التشريعات الاسلامية المحببة في العتق، والواعدة عليه أجزل الثواب ......(*2).
كان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر -رضي الله عنه- الذي يبذل هذا المال كله لهؤلاء المستضعفين، أما في نظر الصديق، فهؤلاء إخوانه في الدين الجديد فكل واحد من هؤلاء لايساوي عنده مشركي الأرض وطغاتها، وبهذه العناصر وغيرها تبنى دولة التوحيد، وتصنع حضارة الاسلام الرائعة ..... (*3)
ولم يكن الصديق -رضي الله عنه- يقصد بعمله هذا محمدة، ولا جاهاً، ولا ديناً، وإنما كان يريد وجه الله عز و جل؛..
لقد قال له أبوه ذات يوم :
يابني إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالاً جلد يمنعوك، ويقومون دونك؟
فقال أبوبكر رضي الله عنه : ياأبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل، ..
فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصديق قرآناً يتلى الى يوم القيامة.........(*4)
قال تعالى:
{ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ○ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىفَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى○ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ○ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ○ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ○ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ○ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ○ وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى ○ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى○ لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى ○ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ○ وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ○ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ○ وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ○ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ○ وَلَسَوْفَ يَرْضَى }
(سورة الليل، الآيات: 5-21).
لقد كان الصديق من أعظم الناس إنفاقاً لماله فيما يرضي الله ورسوله ﷺ .
لقد كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة الاسلامية الأولى قمة من قمم الخير والعطاء، وأصبح هؤلاء العبيد بالاسلام، أصحاب عقيدة وفكرة يناقشون بها وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، ..
وكان إقدام إبي بكر -رضي الله عنه-على شرائهم ثم عتقهم دليلاً على عظمة هذا الدين ومدى تغلغله في نفسية الصديق ، وما أحوج المسلمين اليوم أن يحيوا هذا المثل الرفيع، والمشاعر السامية ليتم التلاحم والتعايش، والتعاضد بين أبناء الأمة التي يتعرض ابناءها للابادة الشاملة من قبل أعداء العقيدة والدين.
-------------------------------------------------------------------
🔸 هجرته الاولى وموقف ابن الدغنة منها
قالت عائشة رضي الله عنها :
《 لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله ﷺ طرفي النهار: بكرة وعشية فلما ابتلى المسلمون، خرج أبوبكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى برك الغماد لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة ....(*5)
فقال : أين تريد يا أبابكر ؟ فقال ابوبكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، ...
قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبابكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ...فأنا لك جار. ارجع وأعبد ربك ببلدك. فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة،
فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم : إن أبابكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟
فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة : مر أبابكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ماشاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. ...
فقال ذلك ابن الدغنة لابي بكر، فلبث أبوبكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره....
ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين، و أبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه،....
وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لايملك عينه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا الى ابن الدغنة، فقدم عليهم ؛...
فقالوا : إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، ....
وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمته، فإنا قد كرهنا أن نغفرك ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان. ...
قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة الى أبي بكر فقال :
قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع اليّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبوبكر : فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل .....(*6)
وحين خرج من جوار ابن الدغنة، يعني ابوبكر، لقيه سفيه من سفهاء قريش وهو عامد الى الكعبة فحثا على رأسه تراباً، فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل - فقال له أبوبكر  : ألا ترى مايصنع هذا السفيه،؟! فقال(الوليد) : أنت فعلت ذلك بنفسك، !
وهو ( أي أبو بكر) يقول : ربي ماأحلمك، أي ربي ماأحلمك، أي ربي ماأحلمك . (*7).
وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة منها :
1- كان ابوبكر في عز من قومه قبل بعثة محمد ﷺ فهاهو ابن الدغنة يقول له : مثلك يا أبابكر لايخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأبوبكر لم يدخل في دين الله طلباً لجاه أو سلطان، ومادفعه الى ذلك إلا حب الله ورسوله مما يترتب على ذلك من ابتلاءات، أي أنه لم يكن له تطلعات سوى مرضات الله تعالى، إنه يريد أن يفارق الأهل والوطن والعشيرة ليعبد ربه لأنه حيل بينه وبين ذلك في وطنه . ...(*8).
2- إن زاد الصديق في دعوته القرآن الكريم ولذلك اهتم بحفظه وفهمه وفقهه والعمل به، وأكسبه الاهتمام بالقرآن الكريم براعة في تبليغ الدعوة، وروعة في الاسلوب، وعمقاً في الأفكار، وتسلسلاً عقلياً في عرض الموضوع الذي يدعو إليه، ومراعاة لأحوال السامعين وقوة في البرهان والدليل .(*9 ).
وكان الصديق يتأثر بالقرآن الكريم ويبكي عند تلاوته وهذا يدل على رسوخ يقينه وقوة حضور قلبه مع الله عز وجل ومع معاني الآيات التي يتلوها، والبكاء مبعثه قوة التأثير إما بحزن شديد أو فرح غامر،
والمؤمن الحق يظل بين الفرح بهداية الله تعالى الى الصراط المستقيم، والإشفاق من الانحراف قليلاً عن هذا الصراط، وإذا كان صاحب إحساس حيَّ وفكر يقظ كأبي بكر  فإن هذا القرآن يذكِّره بالحياة الآخرة ومافيها من حساب وعقاب أو ثواب، فيظهر أثر ذلك في خشوع الجسم وانسكاب العبرات،
وهذا المظهر يؤثر كثيراً على من شاهده، ولذلك فزع المشركون من مظهر أبي بكر المؤثر وخَشُوا على نسائهم وأبنائهم أن يتأثروا به فيدخلوا في الإسلام ... (*10).
لقد تربى الصديق على يدي رسول الله ﷺ وحفظ كتاب الله تعالى وعمل به في حياته وتأمل فيه كثيراً وكان لا يتحدث بغير علم، فعندما سئل عن آية لايعرفها أجاب بقوله: أي أرض تسعني أو أي سماء تُظِلنُّي إذا قلت في كتاب الله مالم يُرد الله ..... (*11)
ومن أقواله التي تدل على تدبره وتفكره في القرآن الكريم قوله: (إن الله ذكر أهل الجنة، فذكرهم بأحسن أعمالهم وغفر لهم سيئها، فيقول الرجل: أين أنا من هؤلاء؟! يعني: حسنها، فيقول قائل: لست من هؤلاء، يعني: وهو منهم . ...(*12)،
وكان يسأل رسول الله ﷺ فيما استشكل عليه بأدب وتقدير واحترام، :
فلما نزل قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} النساء 123
قال ابوبكر : يار سول الله، قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: ياأبابكر، ألست تنصب؟ الست تحزن؟ ألست تصيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به .....(*13).
وقد فسر الصديق بعض الآيات مثل قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ( فصلت 30)
قال فيها :
《 فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، فلم يلتفتوا بقلوبهم الى ماسواه لا بالحب ولا بالخوف، ولا بالرجاء ولا بالسؤال ولا بالتوكل عليه، بل لا يحبون إلا الله ولا يحبون معه أنداداً، ولايحبون إلا إياه، لا لطلب منفعة، ولا لدفع مضرة، ولا يخافون غيره كائناً من كان، ولا يسألون غيره ولا يتشرفون بقلوبهم الى غيره .》 ....(*14) وغير ذلك من الآيات.
إن الدعاة الى الله عليهم أن يكونوا في صحبة مستمرة للقرآن الكريم، يقرؤه ويتدبروه ويستخرجوا كنوزه ومعارفه للناس، وأن يظهروا للناس مافي القرآن من إعجاز بياني وعلمي وتشريعي ومافيه من سبل إنقاذ الانسانية المعذبة من مأسيها وحروبها، بأسلوب يناسب العصر، ويكافئ ماوصل إليه الناس من تقدم في وسائل الدعوة والدعاية،
ولقد أدرك أبوبكر رضي الله عنه كيف تكون قراءة القرآن الكريم في المسجد على ملأ من قريش وسيلة مؤثرة من وسائل الدعوة الى الله . ....(*15).
-------------------------------------------------------------------

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم

التاريخ الاسلامى

2/recent/post-list