سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه 🍂 ... (9)

  سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه



🍂 ... (9)
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلاً
------------------------------------------------------------------
أصاب الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة (جدب) بالمدينة وما حولها، فكانت تسقي إذا ريحت تراباً كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى (أقسم) عمر ألا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحي الناس من أول الحياء،(*1)
فقدمت السوق عُكَّة من سمن، ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر فقال : يا أمير المؤمنين، قد أبر الله يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن، وعكة من سمن، فاتبعناهما بأربعين، فقال عمر : أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافاً،...
وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم (*2)
هذا موقف أمير المؤمنين عام القحط الذي سمي عام الرمادة، ولم يختلف موقفه عام الغلاء، فقد : أصاب الناس سنة غلاء ، فغلا السمن، فكان عمر يأكل الزيت، فتقرقر بطنه، فيقول : قرقر ما شئت، فو الله لا تأكل السمن حتى يأكله الناس ....(*3)،
لم تقتصر المساواة على معاملة الناس كافة معاملة واحدة، وإنما تعدتها إلى شؤون المجتمع الخاصة، ومنها ما يتعلق بالخادم والمخدوم،....
فعن ابن عباس أنه قال : قدم عمر بن الخطاب حاجاً، فصنع له صفوان بن أمية طعاماً، فجاؤوا بجفنه يحملها أربعة، فوضعت بين يدي القوم يأكلون وقام الخُدّام فقال عمر : أترغبونه عنهم ؟
فقال سفيان بن عبد الله : لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال : ما لقوم يستأثرون على خدامهم، فعل الله بهم وفعل، ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين .. ...(*4)،
وكذلك فإن عمر رضي الله عنه لم يأكل من الطعام ما لا يتيسر لجميع المسلمين، فقد كان يصوم الدهر، فكان زمن الرمادة إذا أمسى أتى بخبز قد ثُرد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً (*5)، فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به، فإذا قديد من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرناها اليوم.
فقال: بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز . ...(*6)
ولم يكن عمر ليطبق مبدأ المساواة في المدينة وحدها، من غير أن يعلمه لعماله في الأقاليم، حتى في مسائل الطعام والشراب . ..(*7)..
فعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان أتى بالخبيص، فلما أكله وجد شيئاً حلواً طيباً، فقال : والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثم حملهما على بعير مع رجلين، فسرّح بهما إلى عمر. ..
فلما قدما عليه فتحهما، فقال : أي شيء هذا ؟ قالوا : خبيص فذاقه، فإذا هو شيء حلو. ..
فقال: أكل المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال: أما لا فارددهما. ثم كتب إليه: أما بعد، فإنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك. أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك ..(*8).
ومن صور تطبيق المساواة بين الناس ما قام به عمر عندما جاءه مال فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس، حتى خلص إليه، فعلاه بالدِّرة وقال إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لن يهابك .(*9) 😐
فإذا عرفنا أن سعداً كان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأنه فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد الستة الذين عينهم للشورى، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو راضٍ عنهم، وأنه كان يقال له فارس الإسلام … عرفنا مبلغ التزام عمر بتطبيق المساواة . ....(*10)،
ويروي ابن الجوزي أن عمرو بن العاص، أقام حد الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في الساحة العامة للمدينة، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور، غير أن عمرو بن العاص أقام الحد على ابن الخليفة في البيت، ...
فلما بلغ الخبز عمر، كتب إلى عمرو ابن العاص : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاص: عجبت لك يا ابن العاص ولجرأتك عليّ، وخلاف عهدي . أما إني قد خالفت فيك أصحاب بدر ممن هو خير منك، واخترتك لجدالك عني، وإنفاذ عهدي ، فأراك تلوثت بما قد تلوثت، فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك ،....
تضرب عبد الرحمن في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع . ..(*11)،
وقد تم إحضاره إلى المدينة وضربه الحد جهراً، روى ذلك ابن سعد وأشار إليه ابن الزبير، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولا ً (*12)،
وهكذا نرى المساواة أمام الشريعة في أسمي درجاتها، فالمتهم هو ابن أمير المؤمنين، ولم يعفه الوالي من العقاب، ولكن الفاروق وجد أن ابنه تمتع ببعض الرعاية، فآلمه ذلك أشد الألم، وعاقب واليه – وهو فاتح مصر – أشد العقاب وأقساه.
وأنزل بالابن ما يستحق من العقاب، حرصاً على حدود الله، ورغبة في تأديب ابنه وتقويمه وإذا كان هذا منهجه مع أقرب الناس عنده فما بالك بالآخرين؟ .....(*13)
---------------------------------------------------------------------
لم يكن لدى عمر رضي الله عنه هوادة في تطبيق المساواة،
كان جبلة آخر أمراء بني غسان من قبل هرقل، وكان الغساسنة يعيشون في الشام تحت إمرة دولة الروم، وكان الروم يحرضونهم دائماً على غزو الجزيرة العربية، وخاصة بعد نزول الإسلام. ..
ولما انتشرت الفتوحات الإسلامية، وتوالت انتصارات المسلمين على الروم، أخذت القبائل العربية في الشام – تعلن إسلامها بدا للأمير الغساني أن يدخل الإسلام هو أيضاً، فأسلم وأسلم ذووه معه. ..
وكتب جبلة إلى الفاروق يستأذنه في القدوم إلى المدينة، ففرح عمر بإسلامه وقدومه، فجاء إلى المدينة وأقام بهازمنا والفاروق يرعاه ويرحب به، ثم بدا له أن يخرج إلى الحج،...
وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزاره رجل من بني فزارة فحله، وغضب الأمير الغساني لذلك – وهو حديث عهد بالإسلام – فلطم الرجل لطمة قاسية هشمت أنفه،...
وأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ماحل به وأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقر بما حدث فقال له عمر : ماذا دعاك يا جبلة لأن تظلم أخاك هذا فتهشم أنفه؟
فأجاب بأنه قد ترفق كثيراً بهذا البدوي (وأنه لولا حرمة البيت الحرام لأخذت الذي فيه عيناه).
فقال له عمر : لقد أقررت، فأما أن ترضي الرجل وإما أن اقتص له منك.
وزادت دهشة جبلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري وقال : وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟
فقال عمر : إن الإسلام قد سوى بينكما.
فقال الأمير الغساني : لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
فقال الفاروق: دع عنك هذا فإنك إن لم ترضِ الرجل اقتصصت له منك.
فقال جبلة : إذا أتنصر.
فقال عمر : إن تنصرت ضربت عنقك، لأنك أسلمت فإن ارتددت قتلتك ....(*14).
وهنا أدرك جبلة أن الجدال لا فائدة منه، وأن المراوغة مع الفاروق لن تجدي، فطلب من الفاروق أن يمهله ليفكر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وفكر جبلة بن الأيهم ووصل إلى قرار، وكان غير موفق في قراره، فقد آثر أن يغادر مكة هو وقومه في جنح الظلام وفر إلى القسطنطينية، فوصل إليها متنصراً، ...
وندم بعد ذلك على هذا القرار أشد الندم، وصاغ ذلك في شعر جميل ما زال التاريخ يردده ويرويه وفي هذه القصة نرى حرص الفاروق على مبدأ المساواة أمام الشرع، فالإسلام قد سوى بين الملك والسوقة، ولا بد لهذه المساواة أن تكون واقعاً حياً وليس مجرد كلمات توضع على الورق أو شعار تردده الألسنة ......(*15).
وقد روى ابن كثير أنه قال هذا الشعر في أواخر حياته :
تنصرت الأشراف من عار لطمةٍ
وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها اللجاج ونخوةٌ
وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ
وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ
أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعةٍ
وقد يصبر العود الكبير على الدبر
😢😢😢 (*16)
لقد طبق عمر رضي الله عنه مبدأ المساواة الذي جاءت به شريعة رب العالمين وجعله واقعاً حياً يعيش ويتحرك بين الناس، فلم يتراجع أمام عاطفة الأبوة، ولم ينثنِ أم ألقاب النبالة، ولا تضيع أمام اختلاف الدين أو مجاملة الرجال الفاتحين، لقد كان ذلك المبدأ العظيم واقعاً حياً، شعر به كل حاكم ومحكوم، ووجده كل مقهور وكل مظلوم .....(*17)
لقد كان لتطبيق مبدأ المساواة أثره في المجتمع فقد نبذوا العصبية التقليدية، وزالت الفوارق الجاهلية، ولم يطمع شريف في وضيع، ولم ييأس ضعيف من أخذ حقه، فالكل سواء في الحقوق والواجبات، لقد كان مبدأ المساواة في المجتمع الراشدي نوراً جديداً أضاء به الإسلام جنبات المجتمع الإسلامي وكان لهذا المبدأ الأثر القوي في إنشائه .......(*18).
-------------------------
🔸 الحرية عند عمر رضي الله عنه
مبدأ الحرية يقضي بتأمين الحريات العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية ...
وفي دعوة التوحيد كل معاني الحرية والاستقلال لبني الإنسان،
إنّ الإسلام عرف الحرية بكل معانيها ومدلولاتها ومفاهيمها، فتارة تكون فعلاً إيجابياً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتارة فعلاً سلبياً كالامتناع عن إكراه أحد في الدخول في الدين، ...
وقد أسهم مبدأ الحرية مساهمة فعالة إبان حكم الخلفاء الراشدين خاصة في انتشار الدين الإسلامي، وتسهيل فتوحات المسلمين واتساع رقعة دولتهم لأن الإسلام كرم الإنسان وكفل حرياته على أوسع نطاق ...
ولأن النظم السياسية الأخرى السائدة آنذاك في دولة الروم والفرس كانت أنظمة استبدادية وتسلطية، وفئوية ..
وقد قاسى بسببها الرعايا وبصورة خاصة السياسيون والأقليات الدينية أشد درجات الكبت والاضطهاد والظلم،
فعلى سبيل المثال كانت دولة الروم تفرض على الآخذين بالمذهب اليعقوبي ولا سيما في مصر والشام أن يدينوا بالمذهب الملكاني (دينها الرسمي)...
وكم أخذ المخالفون بالمشاعل توقد نيرانها ثم تسلط على أجسامهم حتى يحترقوا ويسيل الدهن من جوانبهم على الأرض، والجبابرة القساة يحملونهم حملاً على الإيمان بما أقره مجمع مقدونية أو يضعونهم في كيس مملوء بالرمال ثم يلقون بهم في أعماق البحار. 😐❗
وكذلك كانت دولة فارس في مختلف العصور تضطهد معتنقي الملل السماوية ولا سيما المسيحيين بعد ازدياد القتال عنفاً بينها وبين دولة الروم، وأما في الإسلام في زمن رسول الله، وعصر الخلفاء الراشدين، فقد كانت الحريات العامة المعروفة في أيامنا معلومة ومصانة تماما ً ... (*19)،
------------------
🔸 بعض التفصيل عن الحريات في زمن الفاروق رضي الله عنه:
🔹1- حرية العقيدة الدينية :
إن دين الإسلام لم يكره أحداً من الناس على اعتناقه، بل دعا إلى التفكر والتأمل في الكون والمخلوقات وفي دين الله وأمر اتباعه أن يجادلوا الناس بالتي هي أحسن،..
قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } البقرة 256.
وقال تعالى:
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ } الشورى48.
وقال تعالى:
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } النحل125.
وقال تعالى:
{ وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } العنكبوت46.
والآيات في ذلك كثيرة ولذلك نجد الفاروق في دولته قد حرص على حماية الحرية الدينية ...
ونلاحظ بأن عمر رضي الله عنه قد سار على هدي النبي ﷺ والخليفة الراشد أبي بكر رضي الله عنه في هذا الباب..
فقد : أقرّ أهل الكتاب على دينهم؛ وأخذ منهم الجزية وعقد معهم المعاهدات كما سيأتي تفصيله، وخططت معابدهم ولم تهدم وتركت على حالها ...
وذلك لقول الله تعالى:
{ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } ...الحج40.
فحركة الفتوحات في عهد الفاروق التي قام بها الصحابة تشهد على احترام الإسلام للأديان الأخرى، وحرص القيادة العليا على عدم إكراه أحد في الدخول في الإسلام، ...
حتى إن الفاروق نفسه جاءته ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجة عنده فقال لها : أسلمي تسلمي؛ إن الله بعث محمداً بالحق، فقالت : أنا عجوز كبيرة، والموت إليَّ أقرب، فقضى حاجتها، ...
ولكنه خشي أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام، فاستغفر الله مما فعل وقال : اللهم إني أرشدت ولم أكره . ....(*20)،
وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني اسمه (أشق) حدّث فقال: كنت عبداً نصرانياً لعمر، فقال أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأبيت فقال: (لا إكراه في الدين). فلما حضرته الوفاة أعتقني وقال: اذهب حيث شئت (*21)،
وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم وطقوس عبادتهم في معابدهم وبيوتهم، ولم يمنعهم أحد من ذلك لأن الشريعة الإسلامية حفظت لهم حق الحرية في الاعتقاد،
وقد أورد الطبري في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيليا (القدس) ونص فيه على إعطاء الأمان لأهل إيلياء على أنفسهم وأموالهم وصلبانهم وكنائسهم(*22)،
وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه؛
《 بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم 》
وأكد ذلك العهد بقوله :
《 على ماضي هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين 》 (*23)،
وقد اتفق الفقهاء(*24)، على أن أهل الذمة لهم ممارسة شعائرهم الدينية وأنهم لا يمنعون من ذلك مالم يظهروا، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلاناً وجهراً كإخراجهم الصلبان يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم . (*25).
يقول الشيخ الغزالي عن كفالة الإسلام لحرية المعتقد إن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض، لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار، مثل ما صنع الإسلام ....(*26).
لقد حرص الفاروق على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع ولخص سياسته حيال النصارى واليهود بقوله:
《 وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدوهم بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم، إلا أن يأتوا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم 》 (*27).
وقد ثبت عن عمر أنه كان شديد التسامح مع أهل الذمة، حيث كان يعفيهم من الجزية عندما يعجزون عن تسديدها،
فقد ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال :
《 أن عمر رضي الله عنه مر بباب قوم وعليه سائل يسأل – شيخ كبير ضرير البصر – فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت ؟ فقال يهودي، ...
قال فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، ...
قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل . ...(*28)،
ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه . (*29)،
وقد كتب إلى عماله معمّماً عليهم هذا الأمر . ...(*30)
وهذه الأفعال تدل على عدالة الإسلام وحرص الفاروق أن تقوم دولته على العدالة والرفق برعاياها ولو كانوا من غير المسلمين، وقد بقيت الحرية الدينية معلماً بارزاً في عصر الخلافة الراشدة، مكفولة من قبل الدولة، ومصانه بأحكام التشريع الرباني.
------------------
🔹2- حرية التنقل أو حرية الغدو والرواح :
حرص الفاروق على هذه الحرية حرصاً شديداً ولكنه قيدها في بعض الحالات الاستثنائية التي استدعت ضرورة لذلك،
أما الحالات الاستثنائية التي جرى فيها تقييد حرية التنقل أو حرية المأوى فهي قليلة جداً، ويكفينا أن نشير إلى الحالتين نظراً لأهميتها :
💧أ‌ - أمسك عمر كبار الصحابة في المدينة ومنعهم من الذهاب إلى الأقطار المفتوحة إلا بإذن منه أو لمهمة رسمية كتعيين بعضهم ولاة أو قادة للجيوش وذلك حتى يتمكن من أخذ مشورتهم والرجوع إليها فيما يصادفه من مشاكل في الحكم ....
ويحول في الوقت نفسه دون وقوع أية فتنة أو انقسام في صفوف المسلمين في حال خروجهم للأمصار واستقرارهم فيها .......(*31)،
فقد كان من حكمته السياسية ومعرفته الدقيقة لطبائع الناس ونفسيتهم، أنه حصر كبار الصحابة في المدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد(*32)،
وكان يعتقد أنه إذا كان التساهل في هذا الشأن، نجمت الفتنة في البلاد المفتوحة، والتفَّ الناس حول الشخصيات المرموقة، وثارت حولها الشبهات، وكثرت القيادات والرايات، وكان من أسباب الفوضى (*33)،
لقد خشي عمر رضي الله عنه : من تعدد مراكز القوى السياسية والدينية داخل الدولة الإسلامية، حيث يصبح لشخص هذا الصحابي الجليل أو ذاك هالة من الإجلال والاحترام على رأيه، ترقى به إلى مستوى القرار الصادر من السلطة العامة، 👍
وتجنباً لتعدد مراكز القوى، وتشتت السلطة، فقد رأى عمر إبقاء كبار الصحابة، داخل المدينة يشاركونه في صناعة القرار، ويتجنبون فوضى الاجتهاد الفردي،👍
ولولا هذا السند الشرعي لكان القرار الصادر عن عمر – رضي الله عنه – غير مجد ولا ملزم لافتقاده لسببه الشرعي الذي يسوغه؛ إذ التصرف على الرعية منوط بالمصلحة(*34).
🌺 رضي الله عن عمر بن الخطاب 🌺
🌺 وصلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم 🌺
--------------------------------------------------------------------
(*1) فقه التمكين في القرآن الكريم ص501.
(*2) تاريخ الطبري (4/ 98) نقلاً عن نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 87).
(*3) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص101.
(*4) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص101.
(*5) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 87).
(*6) نفس المصدر (1/ 188).
(*7) نفس المصدر (1/ 188).
(*8) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص147.
(*9) الخلفاء الراشدون ص243.
(*10) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 88
(*11) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص235.
(*12) الخلافة الراشدة والدولة الأموية. يحيى اليحي. ص345.
(*13) فن الحكم في الإسلام د. مصطفى أبو زيد ص475،476.
(*14) ابن خلدون (2/281) نقلاً عن نظام الحكم للقاسمي (1/90).
(*15) فن الحكم في الإسلام ص477،478 .
(*16) البداية و النهاية لابن كثر الجزء الثامن جبلة بن الأيهم
(*17) نفس المصدر ص478 .
(*18) المجتمع الإسلامي دعائمه وآدابه د.محمد أبو عجوة ص165 .
(*19) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، حمد الصمد ص157،158 .
(*20) معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي إدوارغالي ص41.
(*21) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/58).
(*22) تاريخ الطبري (4/ 158).
(*23) البداية والنهاية (7/ 98).
(*24) السلطة التنفيذية د. محمد الدهلوي (2/ 725).
(*25) نفس المصدر (2/ 725) وقد فصل المسألة.
(*26) حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة ص111.
(*27) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين ص117.
(*28) رضخ له: أعطاه شيئاً ليس بالكثير.
(*29) الأموال لأبي عبيد ص57، أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/ 38).
(*30) نصب الراية للزيلعي (7/ 453).
(*31) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين ص160.
(*32) المرتضي سيرة أمير المؤمنين لأبي الحسن الندوي ص109.
(*33) نفس المصدر ص109.
(*34) القيود الواردة على سلطة الدولة ص151.
☆ فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب على الصلابي ص146-135
☆☆
--------------------------------------------------------------------
تابعونا
لا يتوفر وصف للصورة.
كل التفاعلات:
١٨٢
١٨ تعليقًا
٢٠ مشاركة
أعجبني
تعليق
مشاركة

١٨ تعليقًا

الأكثر ملاءمة

اضغط على Enter للنشر.
تم تحديد "الأكثر ملاءمة"، لذا قد تكون بعض الت

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم

التاريخ الاسلامى

2/recent/post-list