تاريخ دولة المرابطين
... (18)
العبور الثاني للأمير علي بن يوسف إلى الأندلس
------------------------------------------------------------------
ملخص ماسبق :
وأقبل القشتاليون يقودهم ألبرهانس و غرسيه أردوينت كونت دی قبره وكونتات طليطلة ، والأمير الفتي الإنفانت سانشو فوق فرسه ، وقد ارتدى حلة الفرسان ؛ فعند ذلك اختلطت الخيل ، بل سال السيل . وأظلم الليل وأعتنقت الفرسان ، واندقت الخرصان ، ودحا ليل القتام ، وضاق مجال الجيش واختلط الحسام بالأجسام ، والأرماح بالأشباح .
وبينما القتال على أشده إزدلف الأمير الصبي سانشو ابن ملك قشتالة ، إلى قلب المعمعة إلى جانب مؤدبه غرسية أردونیث أو الكونت دی قبره، فلم يلبث أن أحاطت بهما ثلة من الفرسان المسلمين ، وتوالت عليهما الطعان ، فسقط الفتي من فوق جواده ، وقد أصابته طعنة قاتلة .
وسقط فوقه الكونت دي قبره مدافعا عنه ، فدب الهرج إلى صفوف القشتاليين وكثر القتل بينهم ولجأ الكثيرون منهم إلى الفرار ، وسقط معظم القادة والكونتات قتلى .
وحاول الكونتات السبعة الذين كانوا يؤلفون حاشية الأمير القتيل ، الفرار إلى حصن بلنشون القريب ، فلحقت جماعة من المسلمين المدجنين وقتلتهم عن آخرهم ، وعرف مكان مصرعهم « بالكونتات السبعة ».
وهكذا تمت الهزيمة الساحقة على الجيش القشتالى ، وأحرز المسلمون نصرهم الباهر ، في ذلك اليوم المشهود ؛ و أعادت موقعة أقليش الشهيرة ، بروعتها ، ذكريات موقعة الزلاقة .
وتقدر بعض الروايات الإسلامية خسائر القشتاليين فيها بنيف وثلاثة وعشرين ألفا وتجاريها في ذلك بعض الروايات النصرانية ، فتقدر خسائر القشتاليين بعشرين ألفا .
و لم يمض سوى عام وشهرين على موقعة أقليش ، حتى عبر أمير المسلمين على بن يوسف إلى الأندلس للمرة الثانية
في جيوشه الجرارة . وكان عبوره من سبتة ، في الخامس عشر من محرم سنة 503 ه - أغسطس 1109م .
وكان عبوره في تلك المرة بقصد الجهاد خاصة ، أو حسبما
يقول لنا صاحب الحلل الموشية « برسم الجهاد ، ونصر الملة ، وإعزاز الكلمة" . (*1)
-------------------------------------------------------------------
سار أمير المسلمين علي بن يوسف إلى غرناطة ، وأقام بها مدى حين ؛ ريثما تلاحقت حشوده و تأهبت متطوعته
وجنوده .
وتقدر الرواية الجيوش المرابطية الغازية هذه المرة ، بنيف و مائة ألف فارس وثلاثمائة ألف راجل . وهو تقدير يحمل طابع المبالغة .
ولما تكاملت الحشود ، سار الأمير علي في قوات ضخمة ، صوب قرطبة ، فأقام بها شهرا يضع خططه ، ويستكمل أهبته . ثم غادر قرطبة على رأس قواته ، وعبر جبال الشارات
( سييرا مورینا ) ثم جبل طليطلة ، وانقض المرابطون كالسيل على أراضي ولاية طليطلة ، فعاثوا فيها وانتسفوا زروعها ، وخربوا دیارها وسبوا كثيرا من السكان ، واستولوا على كثير من القلاع والحصون ، وهبت ريح من الرعب والروع على النصارى في تلك الأنحاء .
وتقول لنا الرواية الإسلامية إن المرابطين ساروا أولا إلى مدينة طلبيرة الواقعة على نهر التاجه غربي طليطلة ، واقتحموها عنوة، وقتلوا معظم سكانها النصارى ، واستنقذوا من كان بها من أسرى المسلمين .
ولجأت جماعة من النصارى الذين بها إلى القصبة ، ثم تسربوا منها ليلا إلى النهر ناجين بأنفسهم ، فاستولى المرابطون على القصبة ، وانتهبوا سائر ما في المدينة من السلاح والمتاع ، وردو اکنستها كما كانت جامعة ، وندب لها أمير المسلمين واليا
من قبله ، ورتب بها حامية قوية .
ويضع ابن القطان تاریخ اقتحام المرابطين لطلبيرة في منتصف شهر المحرم سنة 503 ه ، ولكن المرجح أنه وقع بعد ذلك بنحو شهر أو شهرين ، إذ كان عبور أمير المسلمين إلى شبه الجزيرة حسبما تقدم في منتصف شهر المحرم .(*2)
وافتتح المرابطون من حصون أحواز طليطلة سبعة وعشرين حصنا ، واستولوا على مجريط ووادي الحجارة ، وقصدوا بعد ذلك إلى طليطلة فضربوا حولها الحصار .
ولكن الرواية النصرانية تقدم إلينا تفصيلا آخر للغزوة المرابطية ، فتقول لنا إن المرابطين بعد أن عاثوا في أراضي قشتالة الجنوبية ، ساروا أولا إلى طليطلة ، واقتحموا منها ( ضاحيتها ) الخضراء الواقعة على نهر التاجه ، وهي التي كانت من قبل بستانا لبني ذي النون ، ثم ضربوا الحصار حول عاصمة قشتالة .
وكان يدافع عنها قائد قشتالة الأول ألبار هانيس في حامية قوية ، ولم يلبث المرابطون على حصار طليطلة وفقا للرواية الإسلامية سوى ثلاثة أيام ، ثم غادروها بعد أن قطعوا ثمارها ، وانتسفوا زروعها .(*3).
ولكن الرواية القشتالية تقول لنا بالعكس :
" إن الحصار قد دام سبعة أيام ؛ بذل المرابطون فيها جهودة فادحة ؛ وضربوا أسوارها بالمجانيق ضربا شديدا . وحاولوا حرق بعض أبراجها ولكن جهودهم ذهبت كلها سدى، ...
واستطاع القشتاليون ؛ اعتمادا على حصانة مدينتهم و أسوارها المنيعة العالية ، أن يردوا كل محاولات المرابطين ،...
وفي اليوم السابع ، خرج البار هانيس في قواته ؛ واشتبك مع المرابطين في معركة شديدة ؛ واضطر المرابطون على أثرها إلى رفع الحصار ؛ ومغادرة المدينة بعد أن أحرقوا آلات الحصار (سنة 1110م). "
ثم تقول الرواية القشتالية "إن المرابطين ساروا بعد ذلك إلى طلبيرة ، فاقتحموها و قتلوا حاميتها ؛ ثم ساروا من بعدها شمالا ، واستولوا على مجریط ووادي الحجارة وقناليش وغيرها من قواعد هذه المنطقة ؛ وهنا دب الوباء في الجيش المرابطی ، فاضطر على بن يوسف أن يغادر أراضي العدو ، وأن يعود أدراجه إلى قرطبة ."
وعلى أي حال فإن الروايات المختلفة العربية و القشتالية تتفق على أن هذه الغزوة المرابطية الأراضي قشتالة ؛ كانت من حيث ضخامة حشودها وأهباتها ، واتساع نطاقها ، بالغة الأثر في ردع القشتاليين و نذیرا لهم .(*4)
وعاد على بن يوسف على أثر ذلك إلى مراكش ، ولكن الغزوات
المرابطية استمرت على نشاطها وشدتها ، في أنحاء شبه الجزيرة ..
ففي نفس الوقت الذي كانت فيه الجيوش المرابطية تحت أسوار طليطلة . سار جیش مرابطی زاخر بقيادة الأمير سير بن أبي بكر والى إشبيلية صوب الغرب إلى أراضي البرتغال .
وكانت هذه المملكة النصرانية الجديدة الناشئة في كنف قشتالة ، قد بدأت في ظل أميرها هنری البرجوني ، صهر ملك قشتالة ألفونسو السادس وزوج ابنته غير الشرعية تریزا ، تنمو ويشتد ساعدها بسرعة ، وكانت قاعدتها يومئذ قلمرية ، ومن ثم فإن الرواية الإسلامية تعرف أميرها "بصاحب قلمرية" .
وكانت يومئذ تضم عدة من القواعد الإسلامية القديمة من قواعد ولاية الغرب ؛ فسار الأمير سير في قواته صوب بطليوس ، ثم زحف على یابرة وافتتحها على الفور ، ثم قصد إلى أشبونة فاستولى عليها هي وضاحيتها شنترة ، وسار
بعد ذلك شمالا ، واستولى على مدينة شنترين ، الواقعة على نهر التاجه ..
ويستفاد من الرسالة التي وجهها سير بفتح هذه المدينة إلى أمير المسلمين ، وهو من إنشاء كاتبه الوزير أبي محمد عبد المجيد بن عبدون ، أن المرابطين هاجموها أولا فاستعصت عليهم . فضربوا حولها الحصار حتى سلمت ، وكان قد قتل من
حاميتها عدد كبير ، فسلم الباقون ، وأسروا سائر من بها .
وقد كانت شنترین ، حسبما ورد في هذه الرسالة من أعظم قلاع الغرب وأكثرها موارد لوقوعها في بسيط وافر الخصب (*5) .
ووصل سير بن أبي بكر في زحفه نحو الشمال إلى مقربة من مدينة قلمرية عاصمة الإمارة ؛ ولم تستطع القوات البرتغالية بقيادة الكونت هنری ، دفعا للقوات المرابطية الغازية .
وكان افتتاح المرابطين لهذه القواعد الغربية في سنة (504 ه/1111م) .
وتقول الرواية الإسلامية إن الأمير سير ، افتتح في هذه
الغزوة أيضا مدينة بطليوس وبرتقال (*6).
ولكن بطليوس كانت في أيدي المرابطين منذ انتزعوها من بني الأفطس في سنة (488 ه/1094م) . وأما برتقال ، و هي تعني في الجغرافية الأندلسية ثغر بورتو ، فهي تقع في أقصى شمالى البرتغال ، وفي شمال قلمرية .. ومن ثم فإن المرابطين لم يصلوا في زحفهم إليها ولم يفتحوها .
ومما هو جدير بالذكر أنه على أثر هذه الغزوة ، وفد على مدينة إشبيلية المنصور بن عمر المتوكل بن الأفطس قادما من أراضي قشتالة ، وكان قد سار إليها في أمواله وذخائره ، والتجأ إلى ملك قشتالة ألفونسو السادس ، حينما غزا المرابطون مملكة بطليوس سنة( 488 ه)، وقتلوا أباه عمر المتوكل و أخويه ، وقيل إنه اعتنق النصرانية يومئذ .
ولما وصل إلى إشبيلية ، أخذ إلى حضرة أمير المسلمين علي
بمراکش فكانت له لديه منزلة ملحوظة .
ولم يمض قليل على ذلك حتى سارت حملة مرابطية جديدة صوب قشتالة بقيادة الأمير أبي محمد مزدلى والى قرطبة (*7)
وكان أمير المسلمين على بن يوسف قد أسند إليه ولاية قرطبة وغرناطة منذ سنة (505 ه) وولى أخاه أبا الطاهر تمام والى غرناطة ولاية تلمسان بالمغرب وعاث المرابطون في أراضي قشتالة ، وخربوا ربوعها بالنار و السيف ، واستولوا على حصن أرجنة أو Oreje و قتلوا حاميته ، وسبوا كثيرا من النساء والأطفال .
ثم قصدوا إلى مدينة طليطلة عاصمة قشتالة وضربوا حولها الحصار مرة أخرى (507 ه /1114م) . وكان البارهانيس
قائد قشتالة الأكبر ، عندئذ في منطقة قرنقة ، وكان قد استطاع انتزاع قونقة ، من المرابطين (1111م) ، ولكنها لم تلبث في يد القشتاليين سوى فترة يسيرة .
فلما ترامت إليه أنباء الغزوة المرابطية ، وحصار المرابطين لطليطلة ، هرع لمدافعتهم في جيش قوامه عشرة آلاف فارس ، ونشبت بين القشتاليين والمرابطين تحت أسوار المدينة المحصورة ، معارك عديدة ، مني فيها كل من الفريقين بخسائر ، وفقد القشتاليون وفقا لأقوال الرواية من العربية والنصرانية سبعمائة قتيل ، واستطاعوا أن يحملوا المرابطين على رفع الحصار ، بعد أن نجحوا في إحراق آلاتهم
الثقيلة (*8) .
وتقول الرواية العربية إن ألبارهانيس حينها أقبل لنصرة مواطنيه ،.وسار مزدلى للقائه ، فر أمامه ليلا ولم يجرأ على مقاتلته ، وعاد مزدلى على أثر ذلك إلى قرطبة ظافرة ، ثم تقص علينا خبر غزوة أخرى قام بها مزدلي في منطقة وادی
الحجارة ، وأن صاحبها "الزند غرسيس" حينما سار مزدلى لقتاله ، لجأ إلى الفرار واحتوى مزدلى على محلته وسائر أثقاله و أمتعته (*9)
وهي غزوة لم تشر إليها الرواية النصرانية ؛ وتزيد الرواية العربية على ذلك أن الأمير مزدلي توفي في شوال سنة
(508 ه/1115م) أعني في العام التالى لحصار طليطلة ، وذلك أثناء غزوة قام ضد القشتاليين على مقربة من حصن مسطانية الواقع في طريق قرطبة . (*10)
وكتب بنبأ وفاته إلى أمير المسلمين على بن تاشفين ، فأمر بتولية ولده محمد بن مزدلی مكانه على قرطبة ، وبتولية ولده عبد الله على غرناطة .
ولم يمكث محمد في ولاية قرطبة سوى أشهر قلائل ، ثم خرج في عسكره ليرد القوات القشتالية التي اقتربت من أراضي ولاية قرطبة ، ونشب بين الفريقين قتال عنيف سقط فيه محمد بن مزدلى وعدد كبير من زعماء لمتونة منهم الأمير محمد بن الحاج ، والأمير أبو إسحق ابن دانية ، والأمير أبو بكر بن واسينو ، وجملة وافرة من الحشم و أهل الأندلس وذلك في مستهل صفر سنة (509 ه/27 یونیه 1115م).
ولما وصل خبر هذه النكبة إلى أمير المسلمين على بن يوسف ، بادر فندب لولاية قرطبة ابن عمه الأمير أبا بكر يحيي بن تاشفين ، فقدم إليها على عجل ، وما كاد يستقر بها حتى حشد قواته ، وسار في أثر القشتالين صوب بياسة ..
ولحق به عبد الله بن مزدلی صاحب غرناطة في قواته و نشبت بين المرابطين والنصارى معركة جديدة ، هزم فيها المرابطون مرة أخرى ، وقتل منهم عدد جم ، وذلك في اليوم الثامن والعشرين من جمادى الثانية سنة 509 ه ( أواخر أكتوبر 1115م) .(*11)
وكان الأمير سير بن أبي بكر اللمتوني والى إشبيلية ، والقائد العام للجيوش المرابطية في أسبانيا قد توفي قبيل وفاة الأمير مزدلى بقليل في جمادي الأول في سنة (507 ه/1114م ) ، فعين مكانه لولاية إشبيلية محمد بن فاطمة
فلبث في ولايتها حتى توفي سنة (515 ه/1121م) .
وهكذا فقد المرابطون في شبه الجزيرة بوفاة مزدلی ، وسیر بن أبي بكر ، قائدين من أعظم قواد لمتونة وألمعهم ، وقد كان مزدلي ، وهو مزدلى بن تیولتكان بن الحسن بن محمد بن ترقوت (ترجوت) ، من أركان الدولة اللمتونية و العصبة الصنهاجية ، وكان من أقارب يوسف بن تاشفين لالتقائهما في ترقوت .
ويصفه ابن الخطيب بأنه كان « بطلا ثبتا ، بهمة من البهم (*البهم بضم الباء وتحريك الهاء كتائب الفرسان الأشداء) ، بعيد الصيت ، عظيم الجلد ، أصيل الرأي ، مستحكم الحنكة ،
، طال عمره ، وحمدت مواقفه ، وبعدت غاراته ، وعظمت في العدو وقائعه » (*12)
وقد كان من أعظم أعمال مزدلی استرجاعه لمدينة بلنسية من أيدي جنود السيد الكمبيادور بعد وفاته وجنود قشتالة ، وذلك في سنة( 495 ه /1102م). وكان قد ولى بلنسية ثم قرطبة ، وغرناطة أيام يوسف ، ثم ولى قرطبة قبيل وفاته ببضعة أعوام من قبل على بن يوسف .
وأما سير بن أبي بكر ، فقد كان أيضا من أعظم زعماء لمتونة وقادتها ، وقد.ظهر بنوع خاص بشجاعته وبراعته العسكرية الفائقة في موقعة الزلاقة(479 ه) .
ولما جاز أمير المسلمين يوسف بن تاشفين جوازه الثالث إلى شبه الجزيرة في سنة (483 ه)، وبدأ افتتاح دول الطوائف بالاستيلاء على غرناطة ، فوض عند عودته إلى المغرب شئون الأندلس إلى الأمير سير ، وعهد إليه بافتتاح ممالك الغرب الأندلسية ، فافتتح سير مملكة إشبيلية من يد بن عباد ( 484 ه)، ثم افتتح مملكة بطليوس من أيدى بني الأفطس (488 ه)
وكانت آخر الغزوات العظيمة التي قام بها سير ، هي افتتاحه لقواعد الغرب من بابرة حتى أشبونة سنة (504 ه/1111م) حسبما تقدم من قبل .
ويجب أن نلاحظ أنه كان من أسباب نشاط الغزوات المرابطية في تلك الفترة ، وإقدامها على مهاجمة طليطلة عاصمة قشتالة ومحاصرتها غير مرة ، ما وقع في اسبانيا النصرانية عقب وفاة ألفونسو السادس دون وارث (1109م) ، وقيام ابنته أوراكا في العرش ، ...
وهو ما أدى لحروب أهلية حول الملك بين أوراکا وزوجها ألفونسو الأول ملك أراجون من جهة ، وبينها وبين أشراف جليقية أنصار ولدها ألفونسو ريمونديس (السابع) من جهة أخرى ، وضعف الجبهة الدفاعية النصرانية بذلك ، وعجزها عن القيام بغزوات كبيرة في أراضى المسلمين، ..
وخصوصا بعد مصرع ألبارهانیس قائد قشتالة الكبير في إحدى هذه المعارك الأهلية ، وقد كان هذا القائد الشهم زميل السيد الكمبيادور ومعاونه ، من أعظم قادة أسبانيا النصرانية في هذا العصر .
وشملت موجة الغزو المرابطي شرقي الأندلس كذلك ؛ ونحن نعرف أن.المرابطين بقيادة أبي عبدالله محمد بن الحاج والى بلنسية ، قد استولوا على سرقسطة من أيدى بني هود في أواخر سنة (503 ه/ 1110م) حسبما سبق أن فصلناه من قبل في تاريخ مملكة سرقسطة .
وكان يوسف بن تاشفين قد أوصى ولده عليا فيا أوصاه ، بأن يهادن بنی هود ملوك سرقسطة ، وأن يتركهم في ملكهم حائلا
بينه وبين النصارى . وكانت هذه سياسة فطنة ، تتفق مع ظروف سرقسطة وموقعها في الثغر الأعلى بين الممالك النصرانية .
ولكن الحوادث سارت في طريق آخر ، واختلف أهل سرقسطة مع ملكهم عبد الملك بن المستعين بن هود الملقب بعماد الدولة ، لارتمائه في أحضان النصارى ، وتغليبهم في مصالح الدولة . وكتبوا إلى أمير المسلمين على بن يوسف يدعونه لامتلاك بلادهم .
وكان على بعد أن تلقى فتوى الفقهاء بوجوب خلع عماد الدولة ، وفقا لرغبات أهل سرقسطة ، وبعد أن زحفت الجنود المرابطية بالفعل من بلنسية نحو الشمال - وكان قد أراد أن يبقي على رياسة بني هود استجابة لضراعة عماد الدولة ، ولكن الحوادث سبقته ..
وانتهى المرابطون بالاستيلاء على سرقسطة ، وذلك في اليوم العاشر من ذي القعدة سنة (503 ه/یونیه 1115م) ودخل ابن الحاج قصر الجعفرية الشهير و استقر فيه.
وكان عمادالدولة حينما شعر بمقدم المرابطين ، قد غادر سرقسطة في أهله و أمواله إلى حصن روطة المنيع ، الواقع على نهر خالون ( شلون ) ، وهكذا انتهت مملكة سرقسطة ،
وانتهى ملك بني هود ، وامتد سلطان المرابطين بذلك ، إلى قلب الثغر الأعلى .
ولبث ابن الحاج واليا على سرقسطة بضعة أعوام، وهو يحوطها بحمايته و يرد عنها أطماع النصارى ، المحيطين بها من الشرق والغرب والشمال ، و يقوم بغزو أراضيهم والعيث فيها من آن لآخر .
وفي سنة (504 ه/1111م) زحف ألفونسو الأول ملك أراجون (المحارب) (*13)، نحو سرقسطة و معه عماد الدولة عبد الملك ابن المستعين حتى أصبح قريبا منها ، وخرج محمد بن الحاج في قواته لمدافعته .
وقدمت الجند المرابطية من مرسية على عجل يقودها و اليها محمد بن عائشة ، فلما رأى ألفونسو تفوق المرابطين ، ارتد أدراجه ، وطاردته العساكر المرابطية حينا ،واستمر المرابطون على غزواتهم المخربة في أراضيه .
وسارت قوة منهم بقيادة على این کنفاط اللمتوني صوب قلعة أيوب ، وحاصرت بعض حصون عبد الملك بن هود ، فاستغاث، عبد الملك بحليفه وحاميه ألفونسو ، وقدمت لمعاونته نجدة من النصارى ، فانهزم المرابطون وأسر قائدهم ابن كنفاط ، و بقي في أسر عبد الملك مدة ثم أخلى سبيله (*14) .
ولما اشتدت موجة الغزو المرابطي لأراضي قشتالة ، خرج ابن الحاج في قواته من سرقسطة في شهر صفر سنة( 508 هـ/يولية 1114م) ، وانضم إليه في لاردة محمد بن عائشة في قواته ؛ وسارت القوات المرابطية المتحدة شرقا ، واخترقت
أراضي إمارة برشلونة ، وهي تثخن فيها ، وتستولى على مقادير عظيمة من السبى والغنائم ، واستمرت كذلك حتى وصلت إلى ظاهر مدينة برشلونة العظيمة .
وعندئذ بعث ابن الحاج الغنائم والسبى مع بعض قواته لتعود من الطريق الكبير ، واتجه هو بباقي قواته غرباً ليسير من طريق البرية ، وهو أقصر وأقرب إلى سرقسطة ، ولكنه فوجئ خلال الطريق بقوات كثيفة من النصارى متأهبة في كمائنها ، فنشب القتال بين الفريقين ، وقاتل ابن الحاج وقواته قتالا عنيفاً حتى سقط معظمهم ، وفى مقدمتهم – وفقاً لهذه الرواية – قائدهم الباسل ، ونجا ابن عائشة وقليل من صحبه .
بيد أن ابن الحاج ، وفقاً لرواية ابن عذاري المتقدمة لم يقتل في هذه الموقعة ، وإنما قتل في العام التالي في موقعة قرطبة التي سبق ذكرها .
ولما علم أمير المسلمين على بهذه النكبة ، وما أصاب محمداً بن عائشة على أثرها من الذهول ، عين صهره زوج أخته الأمير أبا بكر بن ابراهيم بن تافلوت والى مرسية ، أيضاً واليا على بلنسية وطرطوشة وسرقسطة ، وأمره بالسير لغزو النصارى .
فجمع ابن تافلوت سائر قواته ، وسار شمالا إلى برشلونة ، وهو
يثخن في أراضيها بالنار والسيف ثم حاصرها . وأقام على حصارها عشرين يوما ، حتى خرج إلى لقائه أميرها رامون برنجير في قوات برشلونة وأربونة ، ونشبت بين الفريقين معارك عنيفة قتل فيها كثير من النصارى ، وخسر المسلمون نحو سبعمائة قتيل ، وارتد المرابطون بعد ذلك صوب أراضيهم (*15) .
وكان أبو عبد الله محمد بن الحاج من أكابر زعماء لمتونة وقوادها ، وكان يتصل بصلة القرابة المتينة ليوسف بن تاشفين ، إذ يرجع نسبه إلى ترقوت أو ترجوت جد العاهل المرابطي ، وعرف بابن الحاج ، إذ قام أبوه بأداء الفريضة ؛ وقد ظهر منذ البداية ، مذ عبر إلى شبه الجزيرة مع يوسف بن تاشفين في سنة 484 هـ ، بمقدرته وأعماله العسكرية البارزة ، أول احين افتتاحه لقرطبة من يد ،ابن عباد، ثم في محاربته للقشتاليين ، في غير موقعة .
ولما تولى على بن يوسف ، عينه أولا واليا للمغرب ، ولكنه لم يمكث في هذا المنصب سوى أشهر قلائل ثم ندبه لولاية بلنسية وشرقى الأندلس ، في سنة 501 ه . ومن بلنسية سار
ابن الحاج إلى سرقسطة ، استجابة لدعوة أهلها ، وانتزعها من يد بنى هود ، واستقر والياً لها حسبما نقدم ..
وكان من أعظم الأعمال التي حققها أمير المسلمين على بن يوسف يومئذ ، استر داده للجزائر الشرقية واستنقاذها من أيدى الغزاة النصارى . إذ أنه حينما سقطت مملكة دانية في يد المقتدر بن هود في سنة (468 ه /1076م ) ، وانتهت بذلك رياسة علي بن مجاهد موفق الدولة ، كان على حكمها ،
( أي الجزائر ) ، عبد الله المرتضى ، وقد أعلن استقلاله عندئذ ، واستبد بحكمها .
ولما توفى المرتضى في سنة 486 هـ ، خلفه في حكم الجزائر فتى من أخص فتيانه هو مبشر بن سلمان ، فضبط شئونها بحزم وكفاية ، وتلقب بناصر الدولة ، واستمر على حكمها فترة طويلة ، وهو بمعزل عن حوادث شبه الجزيرة .
وكانت الجيوش المرابطية خلال ذلك ، تستولى تباعا على قواعد الأندلس الشرقية ، فاستولت على بلنسية في سنة 495 هـ ، ثم استولت بعد ذلك على سرقسطة وقواعد الثغر الأعلى ( 502 هـ ) .
بيد أن مبشراً هذا لم يفكر بالرغم من وجود الجيوش المرابطية على مقربة منه في ثغور اسبانيا الشرقيةأن ينضوى تحت لواء المرابطين ، أو يعقد الحلف معهم، واستمر على استقلاله بحكم الجزائر ، حتى دهمتها الغزوة النصرانية الكبرى .
وقصة الغزو النصراني للجزائر الشرقية أو مملكة دانية ، أنه لما كثرت غارات البحارة المسلمين على الشواطئ الإيطالية الشمالية والشرقية ، وشواطئ قطلونية الإسبانية عقدت جمهوريتا بيزة وچنوة ، وإمارة برشلونة حلفا لافتتاح الجزائر الشرقية .
وفى أوائل سنة 508 هـ ( 1114م ) خرج من مياه چنوة أسطول الغزو ، وقوامه نحو ثلاثمائة سفينة ، ومعه وحدات بحرية أخرى من برشلونة وفرنسا ، وفرض الغزاة على مدينة ميورقة عاصمة الجزر الشررقية حصاراً محكماً صارماً، وقاسي المسلمون أهوالا من الحصار الذي استمر زهاء عام .
وفى أواخر سنة 508 ( أوائل سنة 1115م) اقتحم الغزاة أسوار ميورقة ودخلوها ، واحتلوا قصر المدينة وعاثوا في أنحائها ، قتلا ونهبا وسبياً ، وقتلوا من سكانها جملة عظيمة ، وكانت محنة مروعة .
وفى خلال ذلك ، كان المرابطون يرقبون تطور الحوادث في الجزائر . ولم يكن أمير المسلمين علي بغافل عن أهمية الجزائر ، وأهمية موقعها بالنسبة لحماية شواطئ الأندلس الشرقية .
ولما حاصر النصارى ميورقة ، بعث مبشر بصريخه إلى أمير
المسلمين ، ولكنه توفى خلال الحصار ، وحاول خلفه القائد أبو الربيع سليمان ، أن يغادر الحزيرة ليسعى في طلب النجدة ، فأسره النصارى . ولكن صريخ مبشر وصل إلى أمير المسلمين على يد بحار جريء هو القائد أبو عبد الله بن ميمون ، الذي
استطاع أن يخترق الحصار بسفينته تحت جنح الظلام ، ولم يستطع النصارى لحاقا به .
وكان أمير المسلمين ، قد أتم عندئذ أهبته البحرية الضخمة . فبعث لإنجاد الحزائر واستنقاذها أسطولا ضخماً قوامه نحو ثلاثمائة سفينة . وأقلعت السفن المرابطية بسرعة صوب الجزائر ، بقيادة أمير البحر المرابطي ابن تفرتاش .
فماذا كان بعد ذلك ؟ نكمل ان شاء الله في االفقرة القادمة
-------------------------------------------------------------------
(*1) محمد عبد الله عنان /دولة الإسلام في الأندلس/عصر المرابطين وبداية الدولة الموحدية ص٦٢-٦٧
(*2) ابن عذاري في البيان المعرب (الأوراق المحطوطه المشار إليها - شسیر سر، ص ۷۰) . و ابن القطان في نظم الجمان .
(*3) هذه رواية ابن عذاري في البيان المغرب ، في الأوراقي المخطوطة السالفة الذكر ، ولكن صاحب روض القرطاس بقول لنا إن المرابطين لبتوا على حصار طليطلة مدى شهر (روض القرطاس ص ۱۰۰)
(*4) تراجع تفاصيل هذه الغزوة في البيان المغرب ( الأوراق المخطوطة المشار إليها - هسبيرس ص ۷۰ ؛ وروض القرطاس ص ۱۰۰، والحلل الموشية ص۹۲. و ابن خلدون ج۱ ص۱۸۸ . وكتاب الاكتفاء لابن الكر ديوس ( مخطوط أكاديمية التاريح ا لوحة 164). وراجع أيضا :
F. Codera : Dec. y Dis de los Almoravides p 232 & 231 IS, M. Lafuente,
Hist. General de Espana Vol. III. p. 229
(*5) راجع الرسالة المذكورة في المعجب للمراکشی ص ۹۰ - ۹۳
(*6) روض القرطاس ص ۱۰۰.
(*7) ويقول ابن الكرديوس في كتاب الاكتفاء ، إن الحملة كانت بقيادة الأمير بن مزدلى ، ابن أبي بكر ( مخطوط أكاديمية التاريخ السالف الذكر لوحة ۱۱۹۰ .
(*8)
M. Lafuente: ibid; Vol. III. p. 230
(*9) روض القرطاس ص ۱۰۰.
(*10) ابن الخطيب عن ابن الصيرفي في الإحاطة ،و البيان المغرب ( الأوراق المخطوطة هسبير س ص ۷۷) .
(*11) البيان المغرب ( الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبر س ص ۷۷). وروض القرطاس ص ۱۰۰ .
(*12) ابن الخطيب في الإحاطة ( خطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة ۱۸۰).
(*13) نسمي الرواية الإسلامية ألفونسو المحارب « ابن رذمير ، نسبة إلى اسم ابيه سانشو رامیرز
(*14) البيان المغرب ( الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبير س ص ۷۳)
(*15)روض القرطاس ص ١٠٤ و ١٠٥ ، وراجع أيضاً :
F. Codera ibid, . (22 - 20)p
☆ محمد عبد الله عنان /دولة الإسلام في الأندلس/عصر المرابطين وبداية الدولة الموحدية ص٦٨- ٧٧
-------------------------------------------------------------------
تابعوا #دولة_المرابطين_جواهر (18)
إرسال تعليق